ولكن بقي حكم صوم يوم عرفة بعرفة، حج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فيا ترى! هل صام صلى الله عليه وسلم أو أفطر؟ جاء في الحديث أن الصحابة اختلفوا هل هو صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ ولم يجرءوا أن يسألوه هل أنت صائم أو مفطر؟ وكانت أم الفضل رضي الله تعالى عنها حكيمة، فقالت: أنا أخبركم، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، وهي تعلم أنه لا يرد اللبن، وذلك ضمن ثلاث لا ينبغي للضيف أن يردها على مضيفه وهي: اللبن والريحان والوسادة.
فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح.
ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت.
فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر.
فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟ الجواب: لا.
ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة.
فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً.
إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: (خذوا عني مناسككم) .
ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: (خذوا عني مناسككم) .