يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها النزاع.
إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة البدنية: الصلاة، والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله -والطحاوي من علماء القرن الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء القرن السابع أو السادس-: إن الحج عبادة بدنية، والفقهاء يقولون: هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول: الحقيقة أنه بدني محض، والمال مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل مكة يتعين عليه الحج ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج إلى المال للسفر وللسكنى.
إلخ.
وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج غيره عنه، كما جاء في سؤال الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟ إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال: إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها أن يهلك، أفحج عنه؟ قال: (نعم) ، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة.
فقال: (ومن شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب.
قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة) .
إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف عند المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ، قيل: لا يحج عنه، هو الذي قصر في نفسه.
والآخرون يقولون -كما يقول الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج، وبقي في ذمته فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه من بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة.
فهذا الشافعي يوجبه وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث، ولا يقدم عليه إلا الدين.
إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل بدني- يجزئ عن الميت، فمن مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره، وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه، فيكون له أجر حج النافلة، وللحاج عنه مثل ذلك الأجر.
بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام، وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة القرآن للموتى.
أما الصلاة: فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد) ، وبعضهم ينازع في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتبر من كانا يبرانه) يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما، فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب بر أبويه بعد موتهما: (أن تصلي لهما مع صلاتك) ، فقال في هذه الكلمة (تصلي لهما) ، لكن نجد المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن الأصوليين يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع والسجود والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله: (صلاتك) أي: ذات الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي: الدعاء! فإما أن تجعلوها الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون يمنعون ذلك.
فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي لهما، وليس المراد: صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) ، ولكن ذلك في النافلة، أصلي ركعتين وأقول: لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي.
وقوله: (وتصوم لهما مع صومك) ، في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك تصوم أيضاً تطوعاً لهما.
وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من مات وعليه صوم، صام عنه وليه) ، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين عنه.