ينبغي على طلبة العلم حينما يصادفون مسألة خلافية، أن يتأدبوا بأدب الخلاف، ولا يجوز لأصحاب الأقوال المختلفة أن يعنف أحدهم الآخر، ولا أن يسفه رأيه، ولا أن يطرح قوله، بل يعتبره إلى أن يصفي القضية، أنت قلت كذا، وأنا بلغني كذا، وهذا بلغه كذا، على ما تستندون؟ فإذا بحث كل منهم عن الحق، وكان الغرض من ذلك البحث الوصول إلى الحق، وليست نصرة الرأي، وليست شهوة الانتصار والغلبة، بل الغرض هو إصابة الحق، فالجميع يتعاونون ليصلوا معاً إلى معرفة الحق.
ونظير ذلك أيضاً في هذا المسجد النبوي الشريف: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جلس مع بعض أصحابه، فتذاكروا الغسل من الجنابة، فقال قائل: إذا أولج ولم ينزل فلا غسل.
وقال آخر: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.
فوقع الخلاف، هناك من يقول: لا غسل إلا إذا أنزل، والثاني يقول: مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وليس بشرط أن يُنزل.
إذاً: الخلاف من شقين، وكل من الحاضرين يبدي ما عنده، فدخل عليهم علي رضي الله تعالى عنه، فسأله عمر: القوم اختلفوا، ماذا عندك؟ فقال علي رضي الله تعالى عنه لـ عمر: ولم تسألني وتسأل غيري من هؤلاء وبجوارك أمهات المؤمنين وهن أعلم بذلك؟! أرسل إليهن وسلهن.
فقال: أحسنت، وأرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يفعله ويغتسل -يعني: يولج ولم ينزل ويغتسل- وقالت: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل -وهذا متفق عليه، ويزيد مسلم في روايته:- أنزل أو لم ينزل) ، وقد تقدم معنا هذا الحديث في نفس هذا الكتاب المبارك بلوغ المرام في باب الغسل.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع قول عائشة أن هذا فعل رسول الله، ثم يسمع بعد ذلك ما يخالف هذا قال: والله! لن أوتى بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره -أدبت به غيره- فقال أبي بن كعب: على رسلك يا أمير المؤمنين! أنا أخبرك -أي: لماذا كان هذا الخلاف، وهذه هي نتيجة رجوع طالب العلم للسلف وعلماء الأمة؛ لأنهم جمعوا شتات المسائل- أنا أخبرك لماذا اختلفوا وما هو السبب- كنا في بادئ الأمر لا غسل إلا من إنزال، ثم بعد ذلك عُزم علينا، وأصبح إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، فكنا في بادئ الأمر: (إنما الماء من الماء) ، فإذا ما جامع ولم ينزل المني فلا ماء للغسل (الماء من الماء) الماء الذي هو ماء الغسل من الماء الذي هو ماء المني، ثم عزم علينا أن نغتسل.
فهذا مجلس بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في مسألة تعم بها البلوى في كل البيوت، فالمباشرة أمر طبيعي، ويختلفون في حكم من جامع ولم ينزل: أيغتسل أو لا يغتسل؟ إذاً: كانت هناك مسائل ربما تخفى على بعض الناس، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه طرفاً في هذه المسألة.
إذاً: لا غرو أن تخفى بعض المسائل على كبار أصحاب رسول الله، أو على صغار أصحاب رسول الله، أو على كبار التابعين، ثم بعد ذلك مع البحث والتنقيب يطلع على الراجح، ومن هنا كان السلف من التابعين ومن يأتي بعدهم أجمع لجزئيات المسائل، وانتهى الخلاف فيما يتعلق بهذه القضية، وأصبحت مطردة (إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل) .
أمر يتعلق بالإخوة طلبة العلم في الدراسات العليا، وهو بعيد عن أحكام الصيام، ولكن له صلة بالأصل العلمي الفقهي، وهو ما نراه في الآونة الأخيرة أو المتقدمة قليلاً، حيث يقوم طالب علم مجتهد فيختار لموضوع رسالته (فقه فلان) ، مثل كتاب فقه سعيد بن المسيب في حوالى سبعة أو ثمانية مجلدات، فقه إبراهيم النخعي، فقه مجاهد، فقه ابن المبارك، وينفرد الطالب ببحث مسائل فقهية وردت عن صحابي أو تابعي.
وأقول: أيها الإخوة! هل هذا الصحابي أو هذا التابعي قد جمع جميع مسائل الفقه الاختلافية والاتفاقية؟ لا يمكن أن يدعي ذلك أحد، فإذا ما اقتصرنا على مسائله التي وردت عنه فأين بقية مسائل الفقه؟ وإذا اقتصرنا عليها هل نأخذ بها ونترك غيرها؟ وهل نتمذهب بمذهبه فتصبح عندنا عشرات المذاهب، والناس يضيقون ذرعاً بالأربعة؟ الحقيقة إنه ترف علمي، أما عملياً بالنسبة لخدمة الفقه الإسلامي فلا أعتقد ذلك، بخلاف الموسوعات العلمية، فمثلاً البخاري في صحيحه ما اقتصر على صحابي، ولا على تابعي، وإنما جمع ما صح عنده، وليس كل ما صح عنده جمعه، إنما أودع لنا في صحيحه من الصحيح فقط دون الضعيف، ولكن لا يقتصر في الباب على ذكر صحابي، بل يأتي ما حضره من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، فيقف طالب العلم على آراء جملة من الصحابة في الباب الواحد، وحينئذ يكون أدعى إلى استيعاب النصوص في هذه المسألة أو في هذا الباب، وتنظر -مثلاً- في فتح الباري، فتجد أنه يطوف في آفاق أوسع من البخاري عشرات المرات، ويأتينا بالنصوص عن أصحاب السنن جميعاً، وعن أصحاب رسول الله جميعاً، فيجمع لك المسألة بأطرافها، وكما قيل: لا هجرة بعد الفتح، تستغني به عن غيره، ولا تستغني بغيره عنه؛ لأنه جمع ما لم يجمعه غيره.