الحكمة من تحريم الوصال

يبحث العلماء حكم الوصال، وقبل أن نذكر الحكم الفقهي -كما جرت العادة- نذكر ما يستفاد من الحديث ومدلوله العام.

الوصال هو زيادة عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم الليل معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها وإلخ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من تحريم ذلك لها جهتان، وينضمان أو يصبان في غاية واحدة: الجهة الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم فوق طاقتهم تحت عاطفة حب العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة وانفعال، وهو مندفع، وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن بعد أن فات الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل.

الجهة الأخرى: لحفظ الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات والأيام، ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه، وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي عنه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا: أعماله في البيت لا نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس، وذكر الله، لكن ما العمل الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟ فعندهم زيادة رغبة في الخير.

فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم ويفطر، وأحياناً يكون في شغل أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف نعله صلوات الله وسلامه عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك جديد قالوا: إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى الإكثار من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام.

والثاني قال: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر.

والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل إلى الله بأنواع العبادات.

وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا، وبما أجابتهم، وبما قالوا فيما بينهم.

ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في العبادة حصل في ذلك اليوم، وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في العبادات، والرغبة في الخير، وإلخ؟ لا والله! بل غضب، هل يغضب لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي بنقص فهي ناقصة، فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان هناك أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني عن الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض الفائدة- يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة- أما إني والله! لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني- وإني والله! -مع أفعل التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) صلوات الله وسلامه عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015