قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه] .
إذا فطرنا، وأكلنا طوال الليل أو نمنا، فبقي السحور، هل أقول: أنا شبعان، أو ما عندي غرض في الأكل؟ لا، لابد من السحور، وليس بلازم أن تمد الموائد، وتعرض الأصناف، بل ولو تمرات، المهم أن تعمل بهذه السنة، وجاء في الحديث أيضاً: (فرق ما بين صيامنا وصيامهم: أكلة السحر) .
إذاً: (تسحروا فإن في السحور بركة) ، ومن الذي لا يريد هذه البركة؟ الكل يريدها، والبركة تحصل ولو بتمرات وجرعة ماء.
ثم من مباحث السحور: تأخيره وعدم تعجيله، هل تعجيله تورع وتحفظ؟ لا، بعض الناس يقول: أنا أكلت ونويت، وبقي على الأذان ساعة، ثم يعرض عليه الماء، فيقول: لا، لا، أنا نويت، ماذا يعني هذا؟! هل سيبطل نيتك؟! هل سيبطل صومك؟! مادام الوقت باقياً، ولم يتبين الفجر إلى الآن، فكل واشرب ما شئت، وقد يبيت النية للشهر كله من أول يوم، وكل يوم يأكل ويشرب.
إذاً: عقد النية لصوم الغد لا يمنع الإنسان من أكل ولا شرب ما دام الخيط الأبيض لم يتبين.
سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: قدر خمسين آية، أي: بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية كنا نمسك عن الطعام والشراب، ويأتي وقت الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس: يؤخر شرب الماء إلى أن يسمع طقطقة الميكرفون للأذان فيبادر إلى الماء، وبعضهم إلى أن يسمع المؤذن يقول: الله أكبر!! لماذا؟! الله جعل حداً لا تتعداه.
ويؤسفني أن البعض يحتج على ذلك الخطأ بحديث أبي داود رحمه الله: (إذا كان القدح على كف أحدكم فسمع النداء فلا يضعه حتى يقضي حاجته) ، والجمهور على أنه لابد أن يمسك جزءاً من الليل ليضمن إمساكه كامل النهار، على قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمثلاً: قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، وحد الوجه: منابت الشعر من الجبهة، ولكن قالوا: يزيد قليلاً فوق منابت الشعر؛ ليتأكد أنه قد استوعب الوجه، فكذلك قالوا: يمسك قبل تبين الخيط الأبيض ولو بدقائق، ويفطر بعد أن يكتمل غياب قرص الشمس ولو بدقيقة واحدة، لا أن يكون فطره مع نقطة الصفر أول سقوط القرص، لا، هذا مشترك، ولا يصلح.
وقد ناقش البعض هذه المسألة ليلة طويلة مع أفاضل العلماء في المدينة جزاهم الله خيراً، وتمادى الحديث بهم، وأطالوا الأمر، وقال بعضهم: لو كان يأكل والمائدة موجودة وسمع النداء، فلا يقوم عن المائدة حتى يشبع.
فقال لهم شيخ ذاك المجلس: الله يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة:187] ، والحديث يقول كذا، فقلت: لو سمحتم! إذا أخذنا بنص الحديث فهو يقول: (والقدح على كفه) ، لا والمائدة بين يديه، وروح اللغة العربية وجمالها في ألفاظها وتعبيرها؛ لأنه قال: (والقدح على كفه) ولم يقل: في الأرض يتناوله، أو في الثلاجة، أو في الترامس يذهب يبحث عنها، بل قال: (والقدح على كفه) ، وهل وضع القدح على كفه ليراه؟! وهل وضعه على كفه ليرى كم ثقله؟! إنما تناول القدح من الأرض ليشرب، وفي منتصف المسافة ما بين الأرض وفمه فاجأه الأذان، فلا ترده، خذ غرضك منه؛ لأن تبين الخيط الأبيض فيه من النسبية ما يحتمل شرب الماء الذي في القدح، ولو كنا جميعاً في الصحراء نترقب الفجر، فهل كلنا في لحظة واحدة سنقول: طلع الفجر؟ لا يمكن، سيطلع الفجر ونختلف فيما بيننا؛ فطلوع الفجر وتبين الخيط الأبيض ليس كطلوع الشمس، وليس كغروبها؛ لأن الشمس جرم أمامنا، يبتدئ الطلوع ويبتدئ بالنزول، لكن الفجر خيط، ورؤية الخيط دقيقة، وليس كل الناس يرون هذا الخيط رؤية كاملة.
إذاً: إلى أن نقول ظهر أو لم يظهر يكون هذا قد شرب القدح كله، ولا يضر ذلك صومه.
إذاً: هذا الحديث في حالة ضرورية: رجل رفع القدح من الأرض ليشرب ليصوم غداً، فالرسول قال: لا بأس، خذ حاجتك، فلا ينبغي أن نمطط فيها ونزيد حتى نأتي بالمائدة ونأتي بأنواع الطعام، حتى قال له شيخ ذلك المجلس: يمتد إلى متى؟ قال: إلى أن يشبع، قال: حتى تطلع الشمس؟! قال: ولو! هذه -يا جماعة- هفوة، ونصف العقل لا يقبل ذلك.
فنصيحتي للإخوان: كل شخص بيده ساعة، والجدران معلقة بالساعات والإمساكيات، ومعلن متى يكون الإمساك، ومعلن متى أذان الفجر، ولا يعذر في هذا أحد بجهالة، فليحتط المرء لدينه، وليمسك قبل طلوع الفجر بزمن احتياطاً للنهار.
قد يأتي واحد يقول: هذا الاحتياط من الذي أتى به؟ ابن أم مكتوم وبلال ما كان بين أذان هذا وهذا إلا أن يصعد هذا وينزل ذاك.
فنقول: أنت جعلت وقتاً للصعود والنزول، فاجعل فرقاً بين أكلك وإمساكك، فكفيف البصر عندما يطلع إلى السطح، ويستقبل القبلة، ثم يؤذن؛ سيأخذ دقائق.
يا إخوان: السنة ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وما كان أحد منهم يفعل مثل هذه الفعلات، وينبغي أن يكون مع تأخير السحور احتياط لأول النهار؛ حفظاً للصوم.
وبالله تعالى التوفيق.