بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم.
ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: أهدي لنا حيس.
فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) رواه مسلم] .
بعدما قدم لنا المؤلف رحمه الله تعالى وجوب تبييت النية في الفرض، جاء بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي يخصص ذاك العموم، ويتعلق بنية النافلة، فتقول رضي الله تعالى عنها: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم) .
قبل الحديث عن النية، وعن نوافل الصيام، وعن أحكام الفطر، ننظر إلى هذا الحديث في مدلوله، سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن تكون جبال الدنيا ذهباً في يده، يسأل أهله: هل عندكم طعام؟ فيقولون: لا، ليس عندنا! هل ذلك لهوانه على الله؟ هل ذلك لنقصان ما عند الله؟ لا والله! بل هو ابتلاء وامتحان لآل بيت النبوة، وقد تحلوا بالصبر والعفة والرضا والقناعة بما لا يقوى عليه أحد في الدنيا.
قد يقول قائل: هذه عائشة ليس عندها شيء، وقد يكون عند بعض زوجاته طعام، فيأتي حديث ضيف رسول الله، عندما أرسل إلى جميع زوجاته يسألهن: هل عندكن ما تعشين به الضيف؟ وكل واحدة تعتذر: ليس عندي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف هذا الليلة وله الجنة؟) يا سبحان الله! الجنة بعشاء ضيف ليلة! ليس لهوان الجنة، ولكن لعظم قري الضيف، بيوت رسول الله التسعة ليس فيها ما يعشي به الضيف؛ وذلك لندرة الطعام وقلته، ولماذا صار الذهب غالياً؟ لقلته وندرته، فيذهب به الرجل إلى بيته، فيقول لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله.
فتقول: والله ما عندي إلا عشاء عيالك! فيقول لها: علليهم حتى يناموا، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج، كأنك تصلحينه فأطفئيه، فإني سأمد يدي في القصعة لتلتقي بيد الضيف فيظن أني آكل معه وأرفعها خالية؛ لأوفر الطعام لضيف رسول الله! وبات العيال والرجل والمرأة خماصاً، وشبع ضيف رسول الله وهو لا يعلم، فما كان لهذا الرجل الذي احتال على الضيف طاعة لله ومرضاة لرسول الله إلا أن استقبله رسول الله في صلاة الصبح قائلاً: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) .
فهذا رجل من عامة الناس، والطعام الذي عنده إن عشّا به عياله لا يعشي الضيف، وإن عشا به الضيف لا يجد ما يعشي عياله وأمهم ونفسه.
أيها الإخوة الكرام! إن أوجب ما يجب على المسلم وعلى العاقل -لو لم يكن مسلماً- أن يحفظ نعمة الله عليه، وإن أعظم أسباب حفظ النعم الشكر لله سبحانه، فهذا الرجل ليس عنده إلا عشاؤه وعشاء عياله، وكم الذين يتجاوزون الحد في إهمال شكر النعمة، ولا يضعونها في مواضعها! فنسأل الله تعالى أن يردهم إلى الصواب، ونوصيهم أن يفيضوا بما أفاض الله عليهم على أولئك الذين يبيتون طاويين لا طعام لهم.
يقول: (هل عندكم من شيء؟ قالت: قلت: لا) !! بل تقول رضي الله تعالى عنها: كان يمر بنا شهران هلال وهلال وهلال، ولم يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.
فقيل لها: فما كان طعامكم حينئذ يا أماه؟! قالت: الأسودان: الماء والتمر.
يا سبحان الله العظيم! لما أراد أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أن يدخل الحجرات في المسجد النبوي، وكان لإدخالها سبب سياسي ومنافسة، بكى أهل المدينة، وقام سعيد بن المسيب يعارض ذلك، فقال عمر: والله! ما هي إلا عزمة أمير المؤمنين -أي: لا أستطيع أن أخالف ذلك- فقال سعيد: وددت لو بقيت حتى يأتي الناس من كل مكان فيروا كيف كانت حالة رسول الله، وكيف كان يعيش، وكيف كان يبيت، وكيف كان يسكن، يقول أنس: إذا مددت يدي نلت سقفها! (هل عندكم من شيء؟ قالت: لا.
قال: إني إذاً صائم) ، أعتقد أن هذا الموقف لا يمكن أن تترجم عنه الكلمات، ولا يمكن أن يدركه إلا ذو حس رهيف، وحساسية شفافة يستطيع أن يقايس بين حياة الناس وحياة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.
يذكر العلماء خلافاً ضعيفاً، وهو: أن النفل والفرض يستويان في وجوب تبييت النية، ولكن الجمهور على أن النافلة تغاير الفرض، ويجوز للإنسان إن لم يأكل أن ينشئ نية صوم من ضحى النهار، وبعضهم يقول: إلى زوال الشمس، وابن عبد البر يذكر في "الاستذكار" عن البعض: ولو إلى قبل الغروب.
ثم البعض يقول: هذا الذي أخر تبييت الصيام وأنشأه من النهار له ثواب من وقت إنشاء النية إلى غروب الشمس، والجمهور يقولون: له ثواب اليوم كله.
وبعضهم يستدل بما وقع عملياً حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء من ينادي: (من كان أكل فليمسك، ومن لم يكن أكل فليصم) فقالوا: هذا إعلام وإلزام بالصيام في وضح النهار، ولم يعلمهم بالليل، ولم يبيتوا الصوم بالليل، وإنما أنشئوه نهاراً، وبعضهم يقيس الفرض على عاشوراء، وبعضهم يجعل ذلك للنافلة فقط، فالذين يقيسون يقولون: صوم عاشوراء في بادئ الأمر كان فرضاً، ولكنه نسخ لما جاء ما هو أهم منه وهو رمضان.
وبعض العلماء يناقش في كلمة (إني إذاً) ، (إذاً) ظرف، فهل معنى (إذاً) يعني: الآن أنشأت نية الصوم أو أني كنت قد بيت النية لصوم، وإذا وجدت شيئاً أكلت، فلما لم أجد شيئاً فأعلمكم أني صائم، يعني: مبيت للصوم من الليل؟ كل هذه أشياء فيها تكلف، وإذا ثبتت لفظة (إذاً) فهي تدل على إنشاء النية نهاراً، وعلى هذا يكون سياق المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها إنما هو بيان لما يستثنى من عموم (لا صيام لمن لم يبيته بليل) ، فيخصص هذا العموم بصحة صيام النافلة لمن لم يبيته بليل.