ولما رأى صلى الله عليه وسلم التباس الأمر عليهم في طهورية ماء البحر، أدرك أنه من باب أولى سيلتبس الأمر عليهم في ميتة البحر، وهم المخالطون للبحر ولميتته ولمائه، فأضاف إلى الجواب ما يرفع اللبس الذي أدركه في حقهم، فأضاف قوله: (الحل ميتته) يقول بعض العلماء: كل ميتة البحر حلال، والبعض يقول: ما عدا السمك الطافي، كما هو مذهب الأحناف، ولهم أدلة على ذلك، فمذهبهم المشهور عنهم عدم جواز أكل السمك الطافي على وجه الماء، وليس هذا لمعارضة الحديث، ولا لعدم العمل به؛ ولكن لأن السمك إذا مات، وأُخذ في أول موته؛ لم يكن فيه مضرة؛ لأن جسمه لم يتغير ولم يتعفن، ولكن إذا طال الوقت تعفن، ودخلت فيه البكتيرياء، ودخله الهواء، وصار جسمه خفيفاً فيطفو على وجه الماء، فإذا أكله الإنسان كان مضنة المضرة لمكثه مدة بعد موته، فقالوا: يكره أكل السمك الطافي على وجه الماء، وخالف الجمهور الأحناف في استثنائهم السمك الطافي، وهذا فيما يظهر ليس متفقاً عليه عندهم؛ لأنه جاء في كتاب (فتح القدير) أنهم لا يحلون للمحرم من صيد البحر إلا السمك، ولكن الله أباح للمحرم كل صيد البحر، واستدل الجمهور على ذلك بحديث العنبر، في قصة سرية أبي عبيدة بن الجراح، حينما نفد زادهم، وكان جراباً من تمر، حتى كانوا يتقوتون على تمرة تمرة، وهم ستمائة رجل! قال الراوي: فرأينا كثيباً عظيماً على الساحل، فلما دنونا منه إذا به حوت عظيم يقال له: العنبر، فمكثنا عليه شهراً وأخذوا يأكلون من لحمه، ويصيبون من ودكه، قال الراوي: ولقد رأيت ثلاثة عشر رجلاً يجلسون في عينه! ولقد أخذنا ضلعين من أضلاعه ونصبناهما، ثم نظرنا إلى أطول رجل فركب أطول بعير، ومر تحت الضلعين! فذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هذا رزق ساقه الله إليكم) ، والأحناف يقولون: إنما أكلوا منه للضرورة؛ لأن أبا عبيدة قال: إنه ميتة، ثم قال: نحن في سبيل الله، وأنتم مضطرون إليه، فكان على سبيل الاضطرار، ولكن قال الجمهور: في القصة أنهم لما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هل بقي معكم منه شيء؟) ، فالضرورة وهم على ساحل البحر لنفاد زادهم، لكن ليس في المدينة ضرورة، فالراجح والصحيح هو قول الجمهور؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) .
لكنهم يستثنون بعض الأشياء، فقد استثنى مالك خنزير البحر، فعندما سئُل عنه قال: أنتم تسمونه الخنزير، والله قد حرم الخنزير، واستثنى كذلك كلب البحر، والبعض يحرم التمساح، أما الضفدع فقد جاء النهي عنه؛ لأن طبيباً استأذن رسول الله أن يجعله في الدواء فنهاه عن قتله، وعلى هذا نقول: نبقى على عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) ، وبعض العلماء يستثني الحيوانات التي يظن أنها ضارة كالسرطان ونحوه.
وعلى هذا أضاف قوله: (الحل ميتته) إلى قوله: (الطهور ماؤه) ؛ لأن راكب البحر قد يحتاج إلى السمك الميت، فقد ينفد طعامه ويحتاج إليه، والبعض يقول: ذكر ذلك ليعلم راكب البحر أن الميتة فيه لا تنجسه، وهذا أمر بعيد؛ فإنه لو رميت نجاسة الدنيا كلها في البحر فلن تؤثر فيه، والأرض بكاملها الربع منها يابس، وثلاثة أرباعها ماء، فما الذي ينجسه؟ إذاً: العلة في ذلك ليرفع اللبس عن ركاب البحر، ويعلمهم بأن الميتة في البحر حلال، وقد جاء عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما مات في البحر فقد ذكاه الله لكم) ، أي: ذبحه لكم، فلا داعي إلى التحرز عنه فهو حلال.