الحديث الثاني: (من صام اليوم الذي يشك) ، يقول علماء المنطق: التشكيك هو دوران المعنى على أمرين متساويين، انظر إلى توءمين متشابهين، أقول: هذا علي، لا، هو أحمد، تساويا في الشكل، والذي لا يعرفهما حقيقة كالأم والأب يتردد، لأن بين أحمد وعلي مائة في المائة تشابه، لكن لو كانت هناك قرينة فلا إشكال، فإن ناداه: ما اسمك؟ قال له: علي.
زال الشك، وتميز، فإذا كان الشيء لا يحتمل إلا أمراً واحداً فهذا علم، أي: أن المعلوم لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فحينما نظرنا إليه دون أن نسأله عن اسمه، كنا مترددين شاكين بين علي وأحمد، فنميز بالتدريج، فإذا تكلم وكان الصوت بينهما متفاوتاً، فلما سمعنا الصوت بدا لنا أنه علي، لوجود قرينة، فوجود القرينة في أحد الجانبين المتساويين تجعل أحدهما ظناً، والثاني وهماً، لما سمعنا صوته، وكنا نعرف صوت علي الذي نعرفه، لكن ما زالت الشبهة قائمة، فكونه علياً هذا ظن، والظن قريب من العلم، وكونه يحتمل أن يكون أحمد هذا وهم، فقوي جانب كونه علياً، إذاً: القرائن ترجح أحد الطرفين، وترفع الشك، ويكون الراجح ظناً، والمرجوح وهماً.
وإذا لم يكن هناك اشتباه فلا إشكال: من هذا؟ هذا صبري، ليس له توءم، ولا نختلف فيه، فصبري هو صبري، فهذا هو علم.
وعلى هذا فاليوم الذي يشك فيه هو اليوم الدائر باحتمالين متعادلين بين كونه نهاية شعبان أو كونه بداية رمضان، ويوضح هذا أنه معلوم بالإجماع أن الشهر القمري لا ينقص عن تسع وعشرين يوماً، ولا يزيد عن ثلاثين، فإذا تيقنا دخول شعبان، ورأينا الهلال يوم واحد شعبان، ومشينا معه إلى أن أكملنا تسعة وعشرين من شعبان، فلما أكملنا تسعة وعشرين من شعبان فاليوم الذي من غد، يمكن أن يكون ثلاثين شعبان، ويمكن أن يكون واحد رمضان، فيكون عندنا شك، ولكن متى يقع الشك؟ هل كل يوم ثلاثين شعبان يحصل فيه شك؟ لا، يكون الشك إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم، ولم نر الهلال، فلو رأينا الهلال لكان يوم غد رمضان يقيناً، وارتفع الشك، فإذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان الجو صحو لا غيم فيه، فنحن بين أحد أمرين: إما أن نرى الهلال ولا شيء يحجبه، وإما ألا نراه، فإن رأيناه فلا شك عندنا، وإن لم نره فلا شك عندنا؛ لأن السماء صحو، فإن قدر وجود الهلال رؤي، فلا يكون هناك شك، وإن لم يظهر الهلال علمنا أن الغد تتمة شعبان، وليس عندنا شك.
إذاً: إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما رمضان بالرؤية، وإما شعبان لعدم الرؤية.
إذاً: ليلة الثلاثين من شعبان إذا كانت صحواً فلا شك، فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم يحجب السماء، فيمكن أن الهلال ظهر ولكن يحجبه السحاب، ويمكن أنه لما يظهر، فالاحتمال متعادل، فهنا يكون الشك، فإن رئي زال الشك، وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل غداً؟ هل نصوم أو نترك الصوم؟ إن صمنا غداً نكون قد صمنا يوم الشك، ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! عبادة ويكون من يقوم بالعبادة عاصياً! نعم؛ لأنه لم يوقعها في محلها؛ لأنه أتى بها على غير ما شرعت، والعبادة إذا لم تكن مشروعة فهي باطلة.
فأعظم ذكر لله هو قراءة القرآن، وما عبد الله بشيء أحب إليه مما خرج منه، فهو كلام الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فهل يجوز لك وأنت أقرب ما تكون إلى الله أن تتعبد الله بالقرآن وأنت ساجد؟ أليس أحب شيء إلى الله كلامه؟ لكن نهيت عن قراءة القرآن في السجود، فإذا قرأت القرآن في السجود، فهل تقول: أنا أعبد الله بأحب شيء إليه؟! لا، أنت جئت بما يكره، فيجب أن تكون العبادات على قاعدة التوقيف كما قال الفقهاء، يعني: نتوقف فيها إلى أن يأتي النص: افعل، لا تفعل.
فهنا: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى) ، وهل عصى أميراً أو مأموراً أو ملكاً أو وزيراً؟ عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] أي: ومن عصى الرسول فقد عصى الله، وطاعة الرسول من طاعة الله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
إذاً: لماذا هذا التشديد، وجعل العبادة معصية؟ لئلا يدخل في رمضان ما ليس منه، هذا تقرير المبدأ، ولكن نحن كطلبة علم، قد نرجع إلى المكتبة ونجد أقوالاً أخرى، ونقرأ في الموسوعات فنجد أن البعض يقول: يصام اليوم الذي يشك فيه احتياطاً لرمضان، وقال بعض السلف: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان، إذا جئنا إلى الفلسفة العقلية يمكن أن نجد لها مجالاً، ولكن لا، حتى العقل يردها، فأنت أتريد أن تجعل احتياطاً لرمضان؟ جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، فهل أنت أشد حرصاً على رمضان من رسول الله؟ إذاً: العقل يقول لك: لا، أنت غلطان؛ لأن الرسول أشد احتياطاً منك، والرسول أشد حرصاً على رمضان منك، وقد نهاك أن تصوم هذا اليوم احتياطاً كما تقول، إذاً: لا نحتاط بصيامه.