مما بقي من مباحث هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى لما عدد مصارف الزكاة، قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
علماء التفسير والفقهاء يقولون: هل يتعين تعميم الصدقة على هذه الأصناف الثمانية فيقسم بيت المال الصدقة إلى ثمانية أقسام ويعطي كل قسمٍ حظه؟ أو يجوز أن نعطيها كاملةً لبعض الأصناف ولو لواحدٍ منها فقط؟ الشافعي رحمه الله يقول: يتعين على مسئول بيت المال، أو المسئول عن قسمة الصدقات أن يقسمها على الأصناف الثمانية، ويعطي كل صنفٍ سهمه، إلا من تعطل سهمه فيرده على الأصناف السبعة الباقية.
والصنف الذي يرد سهمه على بقية الأصناف كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه هو صنف المؤلفة قلوبهم.
فقد جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (أعطنا سهمنا كما كان رسول الله يعطينا) ، فكتب إليهم بسهمهم إلى عامله.
وقال: اذهبوا به إلى عمر ليوقعه، فذهبوا به إلى عمر رضي الله تعالى، فلما قرأه الكتاب قطعه، فرجعوا إلى أبي بكر وتبعهم عمر، فلما وصلوا إلى أبي بكر قالوا: أنت الأمير أم عمر؟ قال: هو الأمير إن شاء -إن شاء ترك الإمارة لي وإن شاء أخذها فلا مانع عندي، يعني: إنما هي مسئولية وتكليف بخدمة المسلمين- فدخل عمر، فقال له أبو بكر: (لِمَ مزقت الكتاب يا عمر؟! قال: لا حق لهم الآن في شيء، كنا في بادئ الأمر نعطيهم سهم المؤلفة قلوبهم، أما الآن وقد أعزنا الله بالإسلام فلسنا بحاجة إليهم، فإما أن يبقوا على إسلامهم وإلا فالسيف بيننا وبينهم) ، فتركوا الأمر وذهبوا.
وبهذا ندفع ما يقوله بعض المغرضين بأن مما أُخذ على عمر أنه عطل كتاب الله؛ لأنه أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان ماضياً، والصحيح أن عمر لم يوقفه، ولكن علَّقه؛ لأن الحاجة إليهم أصبحت منفية، ولم يعد المسلمون في زمن أبي بكر وعمر بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنهم، أو ليحموا الثغور التي عندهم، أو ليدفعوا شرور قبائلهم، إنما كان هذا عند أن كان المسلمون ضعفاء، أما الآن وقد أعز الله الإسلام والمسلمين فلا حاجة إلى هذا الصنف؛ فإن بقي على إسلامه ففيه صيانة لنفسه وماله ودمه، وإن عارض في ذلك فالسيف بين المسلمين وبينه.
كما أنه رضي الله تعالى عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة.
يهمنا هنا أن الشافعي رحمه الله يقول: إذا تعطل سهم فإن حصته ترد على السبعة الباقية.
وبعضهم يقول أيضاً: من قسَّم صدقته بنفسه فليس هناك سهمٌ للعاملين عليها؛ لأنه هو بنفسه قام بتقسيم صدقته.
وأما الجمهور فيقولون: يجوز إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية بالتساوي ولا يشترط التساوي، ويجوز إعطاء الزكاة لبعض هؤلاء الثمانية، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ حينما بعثه إلى اليمن: (فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، ولم يقل: على الأصناف الثمانية، ولم يقل: ترد على الفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب.
، وإنما قال: (ترد على فقرائهم) ، فقالوا: إذا جاز أن تعطى لفريقٍ واحد جاز أن تعطى لبعض الفرق.
والنووي رحمه الله في هذه النقطة يقول: لو افترضنا كما قال الشافعي رحمه الله: لزوم تجزئة الصدقة إلى ثمانية أسهم: سهم للفقراء، وسهم للمساكين، وسهم للمؤلفة قلوبهم … إلى آخره، فهل يشترط على بيت مال المسلمين في سهم الفقراء أن يعم به جميع الفقراء المسلمين؟ أو لو أعطاه لبعض الفقراء أجزأ ذلك؟ قال: فهم متفقون على أنه إن أعطاه لبعض الفقراء أجزأ، فقال النووي رحمه الله: فما دام أنه يجوز أن نعطي سهماً من أسهم الزكاة لبعض أصحابه فلا مانع أن نعطي الصدقة لبعض أصنافها، وأن نفرد بها صنفاً واحداً، وهذا يرجع إلى نظر الإمام في هذه الأصناف الثمانية، فيقدم الأحق فالأحق.
ولهذا يرى العلماء أن من أخرج صدقته بنفسه فلينظر في هذه الأصناف ويعطي الأولوية لمن كان يستحقها، وليس بلازمٍ عليه أن يتتبع تلك الأصناف ويجعل كل جزءٍ لصاحبه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.