قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لـ أبي رافع: اصحبني؛ فإنك تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله) ] .
بعد أن بين المصنف رحمه الله من هم آل البيت؟ أتبع ذلك ببيان من هم أتباع آل البيت، وذلك في قوله: (إن رجلاً بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ... ) ، أي عاملاً له على جمع الزكاة.
ونحن نعلم أن العاملين عليها لهم أجرهم منها، فقال لـ أبي رافع: اصحبني، واذهب معي لعلك تصيب من مال الزكاة، أي: من سهم العاملين عليها.
فهنا توقف أبو رافع، وقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، وهذه هي النعمة الكبرى على الرعيل الأول، أن ما يطرأ لهم من أحكام أو ما يطرأ لهم من أحداث أو من مسائل مستجدة يحوك في نفوسهم منها شيء أو يجهلونها، فإنهم سرعان ما يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم الحكم فيها.
ولهذا كان وجوده صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول نعمة عظيمة؛ لأنه كان يبين لهم الأحكام في الأحداث التي كانت تستجد، فهذا الرجل الذي كُلف بالعمل على الصدقة لقي في طريقه أبا رافع، فقال له: تعال معي لعلك تصيب من العمالة، وهنا أبو رافع لا يعلم هل يصح له أن يذهب مع هذا الرجل أم لا؟ وهل يسمح له بأن يذهب معه أم لا؟ وهل هذا التكليف خاصٌ بهذا الرجل فلا يحق لأحد المشاركة فيه، أم أنه يجوز أن يشاركه؟ وبعضهم يقول: كان الرجل يريد أن يولي أبا رافع العمالة على جهة من الجهات التي ولي عليها، فتكون هذه تولية من الرجل لـ أبي رافع في عملٍ قد كلَّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الرجل نفسه، فـ أبو رافع لو ذهب فستكون ولايته على الجانب الذي يوليه إياه ذاك الرجل وليست ولاية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل الرجل أعطي الحق في أن يولي غيره؟ لأنه إذا وكل إنسانٌ إنساناً فيجب أن يباشر الموكل العمل الذي وكل فيه بنفسه، إلا الأمور التي لا تتأتى من مثله، أما أن يوكل شخصاً آخر لينوب عنه في بعض الأعمال فليس له حقٌ في ذلك؛ لأن من وكله لم يعطه صلاحية التوكيل عنه.
وأيضاً: أبو رافع رضي الله تعالى عنه يحتمل أنه ظن أن تولية الرجل إياه في العمالة على الصدقة ولايةٌ في جمع أموال الناس، وأموال الناس معصومة ولا يحق لأحدٍ أن يأخذها إلا بولايةٍ شرعية، وهل هذا الرجل يملك بأن يولي شخصاً آخر في شيء لم يأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوقف أبو رافع لذلك.
وقال: لا أصحبك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله.
قال: [ (فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، قال: لا تذهب معه؛ لأن مولى القوم من أنفسهم أو منهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة) رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان] .
إذاً: أبو رافع هذا مولى لآل البيت، كما يذكرون في التاريخ أنه كان مملوكاً للعباس قبل إسلامه، فأهداه العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بإسلام العباس؛ لأنهم كانوا يتوقعون ويرجون إسلامه، فمن فرحه صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه العباس قال: (أنت حرٌ لوجه الله) ، فأعتقه لكونه بشره بإسلام العباس، وهكذا الجبلة: أن كل من جاءك بخبرٍ سار في أمرٍ شديد عليك أو في أمرٍ تتوقعه أنك ترضيه، فكما سرك وشرح صدرك فأنت تسره تشرح صدره بما تيسر لك.
وفي قصة توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كان كعب بن مالك في بني سلمة -عند مسجد القبلتين- وكان أحد الثلاثة الذين خلفوا وكانوا قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وقد هجرهم أقاربهم وأرسلوا زوجاتهم إلى أهاليهن، وأصبح الواحد منهم يمشي في السوق ينظر في وجه قريبه أو صديقه فلا يلتفت إليه ولا يسلم عليه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] ، فلما نزلت توبتهم بالليل، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها بعد صلاة الفجر ركب رجلٌ فرساً وركض إليه ليبشره، وذهب رجلٌ فصعد على جبل سلع في أول المدينة وصاح بأعلى صوته: أبشر بتوبة الله عليك يا كعب! فسمع صوت المتكلم قبل أن يصله صاحب الفرس، فوصله صاحب الصوت، وكان عليه رداء فخلعه وأعطاه إياه، وذلك مقابل ما بشره به من نزول توبة الله سبحانه وتعالى عليه.
فلو جاءك إنسان وأنت تنتظر نتيجة ولدك في الجامعة أو في معهد أو في دراسة مهمة، والنتائج تأخرت، فجاءك هذا الإنسان وقال لك: كنت في الإدارة وسمعت بعض أسماء الناجحين وابنك منهم، فأنت في هذه الحالة ستلتفت حولك لتنظر ماذا تعطيه مقابل هذه البشرى.
فـ أبو رافع كان مملوكاً للعباس رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه، وأهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي رافع ببشرى إسلام العباس كأنه لأجل ما سبق من الصحبة، فهو كان مملوكاً للعباس، وكان يتتبع أخبار العباس، ويتشوق إلى إسلامه، يعني: أنه كان له اهتمام بـ العباس أكثر من اهتمامه بالآخرين بحكم الصلة السابقة بالملك، فلما علم أنه قد أسلم، وعلم أن هذا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، فلما أخبره بذلك أعتقه مقابل هذه البشرى السارة التي ألقاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أعتقه صار مولىً له، والولاء يكون للمُعتق على المعتَق لقاء عتقه، يرثه به إذا لم يوجد له وارث فرضاً أو تعصيباً.
فلما جاء أبو رافع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي أرسلته عاملاً على الزكاة طلب مني أن أصحبه، لعلي أصيب من سهم العاملين عليها، قال له صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم من أنفسهم) أي: فلا تذهب.
إذاً: مولى بني هاشم من بني هاشم فلا تحل له الصدقة، وهذا هو الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراده حديث أبي رافع بعد بيان آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن مولى القوم من أنفسهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.