قال المصنف رحمه الله: [وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه: (أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلَّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقويٍ مكتسب) رواه أحمد وقوّاه أبو داود والنسائي] .
بعدما بين المصنف رحمه الله أن الصدقة لا تحل للغني الذي عنده من المال ومن الطعام ما يغنيه عنها، جاءنا بنوعٍ آخر من الغنى، وهو غنى غير مباشر، فجاء بحديث أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة، فنظر فيهما فوجدهما جَلِدين، - (الجَلِد) القوي- فنظر فيهما وصوب النظر وتأمل، ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما) ، ثم بيَّن لهما أن الصدقة التي يطلبانها لا تحل لغنيٍ ولا لقوي مكتسب.
يعني: إذا كان قوياً في بدنه فهذه طاقة يستطيع أن يستعملها ويتكسب بمقتضاها، فهو غنيٌ بطاقته، وبقوته، وباستطاعته أن يجد طريقاً للتكسب بهذه القوة، فإذا كان قوياً جَلِداً لكنه طلب مجالاً يصرَّف فيه هذه القوة ويتكسب عن طريقها ويستغني بما يتكسب فلم يجد؛ فالقوة وحدها لا تكفي، فهو فقير.
فالقوي المتكسب لا تحل له الصدقة؛ لأنه بتركه التكسب مقصرٌ في حق نفسه، وكان عليه أن يُعمل تلك القوة في مجال التكسب ويستغني بما يتكسبه، وهذا في حدود الطاقة البشرية للإنتاج، فإذا كنت قادراً على العمل ولديك طاقة، فلا تهملها وتعطلها والناس في حاجةٍ إليها! وكما جاء أن شاباً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فوجده جَلِداً قوياً، فسأله عما يملك، ثم أرشده إلى الاحتطاب والبيع.
وقد نبهنا سابقاً على أن ما تعانيه كثيرٌ من الدول الصناعية وليست النامية فقط؛ هي مشكلة البطالة، ففي بعض الدول في أوروبا توجد ثلاثة ملايين يد عاطلة.
فكيف تعطلت طاقة ثلاثة ملايين؟ فلو اجتمعت هذه في جهاد، أو في حفر الأنهر، أو في بناء الجسور، أو في رصف الطرق، فكم ستنتج قوة الثلاثة الملايين هذه؟ إذاً: الطاقة البشرية هي أعز ما تكون في الأمة، فإذا تعطلت تعطل كثير من رأس مالها، ولهذا لما قال الشاب: ليس عندي شيء، وليس عندي عمل، وليس عندي مجال، وجهه صلى الله عليه وسلم إلى العمل الحر، فقال: (من عندك في البيت؟ قال: أنا والعجوز، قال: ماذا عندك من أثاث البيت؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه ونلتحف بالنصف الآخر، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما) فأخذهما وقال: (من يشتري مني هذين؟ فباعهما بدرهمين، وأعطى الشاب الدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بدرهم طعاماً واتركه عند أهلك، واشتر بدرهمٍ فأساً وحبلاً وائتني بهما، فذهب وأحضر الفأس والحبل، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه في الفأس وقال: خذ واذهب واحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب واحتطب وباع - ثم أتى فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع فيستغني، خيرٌ من أن يتكفف الناس السؤال أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) .
وهكذا أيها الإخوة! الصحة والقوة والطاقة غنىً، فعلى صاحبها أن يصرفها فيما يعود عليه بما يغنيه عن الناس، وجميع أعمال الناس في هذه الحياة إنما هي بتصريف الطاقة البشرية، فالموظفون في مكاتبهم وفي جميع دوائرهم يتقاضون مرتباً على الطاقة البدنية أو الفكرية التي يبذلونها كل على حسب موقعه، ولهذا كانت المعاوضة على قدر العطاء.
فالذي لديه وسيلة التكسب وله مجالٌ في إعمالها يعتبر غنياً بوجود هذه الطاقة، ووجود ما يوجهها فيه ويعود عليه ذلك بالكسب.
أما إذا كانت الطاقة موجودة ولكن ليس لها مجال، ولم يجد ما يوزعها أو يصرفها فيه، فهو فقيرٌ يحتاج إلى العطاء، وبالله تعالى التوفيق.