وبعد أن بيَّن هذا كأنه يقول: لقد عرفنا الأموال الزكوية وعرفنا أنصباءها، فلمن تعطى تلك الزكوات التي جمعناها؟ فجاء بـ (باب قسم الصدقات) ، والأصل في هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله لم يكل قسم الصدقات إلى أحد، لا إلى صاحبها، ولا إلى نبيٍ مرسل، ولا إلى عالم فاضل، إنما تولاها سبحانه بنفسه، وكذلك الأموال المكتسبة بغير كدٍ ولا جهد، مثل الميراث، فقد تولى الله قسمته، وبيَّن أنصباء الورثة من الأقارب، كالأبوين والزوجين والأولاد، وبيَّن لكل صاحب فرض فرضه؛ لأن الميراث كسبٌ إجباري، ولا يملك إنسان أن يقول: أنا لا أرث، أو لا أريد الميراث، فنقول له: بل تمتلكه رغماً عنك، ثم بعد أن تمتلكه بالتوريث فتنازل عنه لمن شئت، فهو يدخل في ملكك بالقوة.
فإذا قالت الأم مثلاً: لا أريد، فاجعلوا نصيبي وهو لأولادي، نقول: جزاكِ الله خيراً، نصيبك يدخل في ملككِ ثم يتحول عنكِ إلى أولادك، وهكذا الزوج لو قال: لا أريد من زوجتي ميراثاً، فنقول: جزاك الله خيراً، بعد أن يدخل في ملكك اعتباراً يتحول إلى أولادها منك أو من غيرك.
إذاً: الميراث ملكٌ إجباري، ولهذا تولى الله قسمته.
والصدقات كذلك، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المبادئ في قسمتها، فأما القرآن الكريم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
و (إنما) كما يقول علماء البلاغة: أداة حصر، فبين سبحانه القنوات التي تسير فيها الصدقات، وهي ثمانية أصناف، وجاء في الصفة العامة فيمن يستحق الزكاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن فقال له: (أخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
إذا نظرنا إلى الأصناف الثمانية في الآية الكريمة فسنجد أن عنصر الافتقار موجودٌ فيها كلها بدون استثناء.
في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) قال: (الصدقات) ولم يقل: (صدقة) ؛ لأنها بالنسبة لتنوع الأموال الزكوية فهي صدقات: صدقة الإبل، صدقة الغنم، صدقة البقر، صدقة الحبوب، صدقة النقدين، صدقة التجارة، فهي صدقات ولهذا جمعت (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ، وأداة الحصر تمنع دخول غير المحصور عليهم، فالذي يلي (إنما) هو المحصور، والمحصور عليه يأتي بعد المحصور.
إذاً: (إنما) أداة حصرٍ بإجماع أهل اللغة، و (الصدقات) محصورة على من يأتي بعدها من الأصناف الثمانية.
ومن هنا يتبين أنه لا صدقة على غنيٍ؛ لأنه خرج عن نطاق الفقر والحاجة، وهما عنصران موجودان بقوة أو بضعفٍ في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة.