وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) ، هذا موجهٌ لصاحب اليد السفلى، ونحن عندنا طرفان: معطٍ وآخذ، ويدان: يدٌ عليا ويدٌ سفلى، فكان صدر الحديث مع (اليد العليا) ، وذلك في قوله: (ابدأ بمن تعول) ، وهكذا (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا.
ويأتي الحديث للجانب الثاني (ومن يستعفف يعفه الله) ، هل قال: (يستعفف) أو قال: (ومن يتعفف) ؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة.
فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم يكن في شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على العفة ولو كان محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا يطاوع نفسه ويسير وراءها.
فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو يستجلب العفة لنفسه، وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ، لتساوي يده الأخرى في علوها، (ومن يستعفف يعفه الله) .
قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله) ، وهذا كما في الحديث: (ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ، وكما يقول القائل: علل النفس بالقناعة وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها فالغنى والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى) أي: احملها على الغنى، (وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما يكفيها) ، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى ثانياً، ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) .
إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع والحرص، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس.
(ومن يستغنِ) أي: يستجلب الغنى لنفسه (يغنه الله) ، قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء- قال: يا فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل ليلة خميس كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز، أنه في ليلة من الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات ويبعث إليهم بهدايا، فكان -الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول لي: تعال يا فلان! اكتب ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة.
ومرة كنت عنده أكتب أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً شديداً، قلت له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال: عندي شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه.
قال: لا لا، غير هذا، قلت: أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير جداً، قلت: يا شيخ! أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال: القناعة، كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص عليها، وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا يخاف عليه، مادام كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية! اكتب، وحول، ولا تترك عندك شيئاً، فاطمئن ولا تخف من شيء.