القسم الثاني من أصحاب عروض التجارة: المحتكر.
والاحتكار هو الجمع، فحكرها بمعنى: جمعها، وهو الذي يشتري السلع لا ليبيعها ولا ليعرضها للبيع يوم أن اشتراها أو فيما بعد، وإنما يشتري السلعة ويخزنها وينتظر بها مناسباتها، أي: مناسبة ارتفاع السعر في السوق، فمثلاً: التمر في المدينة من رأس المال الموجود، ومن أهم إنتاجها، فيأتي عند الجذاذ ويكون الصاع رخيصاً، فيجمع ويوضع في المخازن، فلا يباع حتى تنتهي فترة الصيف، ويبدأ الشتاء فيحتاج الناس التمر للتدفئة والتغذية، فيبدأ يبيعها، فهو ينتظر الموسم حتى يأتي الحاج؛ لأنه أربح له وأكثر بيعاً، فيحبسها في المستودع، ثم يبدأ بالبيع في الموسم، سواء باع جملة أو تجزئة.
إذاً: استمر وجود السلع في المخزن خمسة أو ستة أشهر فيكون قد احتكرها، ثم بدأ يتعامل ويبيع بالجملة، أو بدأ هو بنفسه يبيع بالتجزئة، بأكثر أو بأقل، فهذا يسمى محتكراً.
والمحتكر إن كان يجمع السلعة لا ليبيعها عند الموسم، ولكن عندما يصبح الناس بحاجة إليها، فإذا أمسكها حتى أصبح للناس فيها حاجة، وضمن بها فلم يخرجها، واشتدت حاجة الناس إليها وكانت السلعة من الأشياء الضرورية كمواد الغذاء أو الألبسة، أو ما هو ضروري لحياة الناس، كأن اختزن الدقيق، أو السمن، أو التمر، أو الأرز، والسوق ماشٍ وهو منتظر حتى يشح الصنف في البلد، يريد أن يكون هو صاحب الامتياز، والمتحكم في السوق، فيأتي يتحكم بأسعار السلعة في السوق على ما يشاء.
ففي هذه الحالة يثبت عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المحتكر خاطئ) ، والخاطئ غير المخطئ، فالمخطئ الذي لم يتعمد الذنب، ولكن الخاطئ هو المتعمد قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، (الخاطئون) ولم يقل: (المخطئون) ، فهذا المحتكر آثم؛ لأنه يتحكم في حاجيات الناس عن قصد، ففي هذه الحالة يتفق العلماء على أن لولي الأمر أن يتدخل بإلزامه بإخراج السلعة، ويبيع بما لا ضرر فيه ولا ضرار.
فلو كانت معروضة فهو أمرٌ طبيعي، فيسعر ويحدد له جزءاً من الربح، وهذا ما يسمى بالتسعير، فحينئذٍ يكون التسعير واجباً وجائزاً على حسب رأي ولي الأمر، وشدة حاجة الناس إلى ذلك، كما قالوا في امتناع أصحاب الأعمال الضرورية للأمة؛ فإن ولي الأمر يتدخل ويلزمهم بالعمل حتى لا يتحكموا في حاجة الناس كما ذكر ابن تيمية رحمه الله.
فمثلاً كان الماء في السابق لا يأتي للبيوت إلا عن طريق السقاء يحمله على كتفه ويدخله البيت، والخبز الآن في الأفران، والبريد الآن لمصالح الناس، والكهرباء، والسباكة، فهذه حاجات متواصلة، فمثلاً قائد السيارات الأجرة في الخطوط الطويلة، لو أن طائفة من هؤلاء امتنعوا عن العمل من أجل مصلحة خاصة، نظر ولي الأمر في أمرهم، وفي شكايتهم؛ فإن كانت عليهم مظلمة رفعها، وإن لم تكن مظلمة وأرادوا تحكماً ألزمهم بالعمل إجبارياً؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وعلى مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار) .