قال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق) .
يضيف صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بمدخل من مداخل الجسم، وهو الاستنشاق، وضابطه: جذب الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار:هو إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه، أي: بالغ في نظافة الأنف.
ومعلوم عند الناس أن الله سبحانه جعل الأنف طريقاً للهواء، ويقولون: التنفس الصحي السليم أن يتنفس الإنسان بأنفه لا بفمه، والفرق بين التنفس بالأنف وبين التنفس بالفم واضح عملياً؛ لأن المتنفس بفمه يأتي بالهواء من الخارج عن طريق الفم إلى الرئة مباشرة، فإن كان في الحر فهو حاراً، وإن كان في البرد فهو بارداً، وإن كان الجو فيه غبار فهو هواء بغباره، ولكن الأنف نجد أنه مفتوح، وليس له مغلاق كالشفتين على الفم، فالهواء داخل وخارج على مر الوقت، فجعل الله سبحانه -من حكمته- في مداخل الأنف شعيرات، وهي عبارة عن مصفاة أولية لرد الأجرام المحسوسة، ووراء الشعيرات المادة المخاطية ترد ما تجاور منها ولو كان ضئيلاً فيلصق بتلك المادة، وما تعدى تلك المادة يأتي إلى الخياشيم، والخياشيم لا تسمح لشيء يدخل إلا الهواء الصافي فقط.
ومن مهمة تلك المادة وتلك الشعيرات والخياشيم تكييف الهواء، فإذا كان الهواء حاراً شديداً فإنه حين يمر بتلك المناطق يتكيف بالبرودة بما يلائم داخل الصدر، وإذا كان الهواء بارداً شديداً مشبعاً بالرطوبة والبرودة فعندما يمر بتلك المناطق فإنه يتكيف بالحرارة التي تناسب الرئة.
ومن هنا -ومن حكمة الله- لما كان طريق الهواء -وهو الأنف- طريقاً مفتوحاً وفيه تلك العمليات من التصفية والتنقية والتكييف كان لابد من العناية به في نظافته؛ لأننا إذا لم ننظف الشعر والمادة والخياشيم انسدت تلك المسام، أو تعطلت فائدتها، وأصبح الهواء يمر ولا يرده شيء.
فعلى هذا كانت عناية الإسلام بهذا المدخل الوحيد للهواء أشد ما تكون.
ويقابل ذلك العناية بالمدخل للطعام والشراب ألا وهو الفم فأمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ المضمضة، بل وشرع السواك، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، ونحن ننبه على محاسن الإسلام وشموله، ونقول:إن العالم الغربي كلما أمعن في الحضارة، وكلما ترقى في المدنية فإنه يعتدل المسار به إلى الإسلام.
أنا لنسمع بالأسبوع الصحي، والعناية بالفم لأنه مدخل الطعام إلى الجسم، ومظهر صحة الفم مظهر من صحة الجسم وهذا بعد أربعة عشر قرناً، والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُعنى بذلك من أوائل البعثة، ويجعله جزءاً في الوضوء، ومع كل وضوء، والإنسان يتوضأ خمس مرات أو أكثر في اليوم والليلة.
فعناية الإسلام بما انتبه إليه الغرب اليوم دليل شاهد قوي على قدم وسبق وسمو حضارتنا الإسلامية على ما توصل إليه الغرب بعد عشرات القرون، وعلى هذا يكون الحديث علما من أعلام السنة النبوية، فمن المعجزات كون النبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى هذه الجزئية الدقيقة في جسم الإنسان من باب الطب الوقائي قبل أن يقع شيء من الأمراض بسبب الإهمال.
ونجد هنا -من الناحية الأصولية- الاحتراز في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستشناق إلا أن تكون صائماً) ، والمبالغة زيادة عن الحد المعتدل، كما يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فما نقص عن الوسط كان تقصيراً، وما زاد عنه كان مبالغة.
وهنا يحث صلى الله عليه وسلم على المبالغة، مع أنه لم يحث على المبالغة في أي عمل من الأعمال، وجعل غسل الوجه ثلاثاً، فليس هذا مبالغة بل هو تكرار، ويمكن أن يكون الاستنشاق ثلاثاً دون مبالغة، والمبالغة هنا: أن يحاول أن يدخل الماء إلى داخل الأنف ليستقصي نظافته، ولكن نجد الاحتراز، كما قيل: لكل مقام مقال، والفتوى والعمل يجب أن تراعى فيهما أحوال الإنسان، فقوله: (وبالغ في الاستنشاق) لأن هذا أدعى إلى النظافة أو استكمال الوضوء، كما أنه جاء أن الشيطان يبيت على خيشومه.
وقوله: (إلا أن تكون صائماً) ، أي: إن كنت صائماً لا تبالغ، ويكفيك الحد المعتدل بأن تستنشق الماء بسهولة بدون مبالغة؛ لئلا يصل الماء إلى درجة لا تستطيع معها أن تتحكم فيه، فيسبقك إلى الداخل وأنت صائم ممنوع من إدخال شيء إلى جوفك.
فالمبالغة مع الصوم تؤدي إلى إبطال ما هو أعم وأفضل وألزم.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذريعة، وهو أن تترك فعل الشيء الجائز مخافة أن تقع في فعل الشيء الذي ليس بجائز، أو تتسبب في حصول شيء أكثر ضرراً من ذلك، كما جاء في الحديث أيضا: (من الكبائر أن يسب الرجل أباه، قالوا: يا رسول الله! وهل يسب الرجل أباه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه) ، فسبك لأبي غيرك ذريعة لأن يسب أباك، فتكون كأنك سببت أباك.
وجاء أيضاً في القرآن الكريم: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: تكونون أنتم من سلطهم على سب الله عز وجل بسبكم لآلهتهم، وأنتم غير مكلفين بهذا، ولكن تمنعونهم وتنصحونهم، ولا تسبوا آلهتهم فتأخذهم الغيرة والحماس مما يجعلهم يسبون الله أيضاً.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذرائع في أصول الفقه، وهذا الذي ينبغي على الإنسان أن يراعيه ولهذا قال العلماء فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا وجدت إنساناً على منكر، أو علمت بمنكر في مكان فتحمست وقلت: يجب تغيير المنكر، ثم غفلت عما يجب مراعاته في قواعد الأمر والنهي، فاقتحمت البيت بغير إذن - وليس لك حق في هذا؛ لقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، وجئته بشدة وحماس وقلت له: يا جاهل يا فاعل فعند ذلك ينتصر لنفسه ولو بالكذب، فيدخل حظ النفس هنا، فبدل أن كنت تريد نصحه لله في إنكار المنكر سمعت سبه لك فأردت أن ترد عن نفسك، فأصبحت القضية شخصية، وبعدت عن الأمر والنهي لله.
وقال العلماء في هذا المعنى: على الآمر أو الناهي أن ينظر في نتيجة ما يأمر به أو ينهى عنه، فهل ستمنع هذا المنكر الموجود الذي يُنهى عنه، أو سيأتي بالفعل المأمور المراد فعله بأمرك إياه؟ أو أن من تنهاه سيأتي ويعتبر ذلك إهانة له؟ وخاصة إذا كانت أمام الناس، فتعتبر فضيحة وينتصر لنفسه، فيأتي بمنكر أكبر مما هو عليه، فيكون نصف من المنكر فجلب من المنكر أكثر من ذلك، فالأولى أن تتكره على نصف المنكر.
من هنا قالوا: على الآمر الناهي المحتسب أن ينظر في عواقب الأمور، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فيدعو على بصيرة، وليس على البصر الذي يرى الأشياء المحسوسة بالفعل، ولكن أصحاب البصائر النيرة هم الذين يرون ببصائرهم ما وراء الواقع استنباطاً من الواقع، وليس علماً بالغيب، ولكن -كما قيل- بصيرة، كما في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فكذلك الداعي يجب أن يكون على بصيرة من أمره، فلو أنه ذهب إلى رجل ينهاه فهل يتحمل أذاه؟ فإن قال: أنا أتحمل الأذى نقول: وإن كنت تتحمل، فليس من اللازم أن تعرض نفسك لما تتحمله من غيرك.
فهذا الحديث أصل في سد الذرائع، سواءٌ أكان في الأعمال العادية، أم في احتساب الأمر والنهي لوجه الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.