قال: [وعنه (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] .
هذا الحديث -كما يقول بعض العلماء- تكلم فيه بعض الناس، أولئك الذين يحشرون العقل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يدركون الحكمة منه.
قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، والليل صالح للاستيقاظ والنهار صالح للاستيقاظ، فهل كلما نام الإنسان واستيقظ يغسل يديه؟ إن القرينة هنا هي قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، والبيتوتة تكون ليلاً.
فقوله: (إذا استيقظ) عام مطلق لكل من ينام ويستيقظ، ولكن في آخر الحديث ما يحدد نوعية النوم.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بالشفعة، فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ، وهناك من قال: الجار بمعنى المجاور، ولكن آخر الحديث: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق) بين أنها تكون بين الشركاء؛ لأن الجيران عندهم حدودهم وطرقهم من قبل.
فلابد أن يؤخذ الحديث بمجموعه ولا يغفل فيه لفظ واحد، فلفظتي (فضربت) و (صرفت) بينتا لنا أن كلمة الجار التي هي حقيقة في المجاورة ومجاز في الشريك يراد بها الشريك.
وعلى هذا فالحديث فيه قرينه تبين نوعية النوم الذي إذا استيقظ منه لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، وهي كلمة (باتت يده) .
وقد يقول قائل: لماذا يغسلها؟ فيقولون -والله تعالى أعلم، وهذا من باب الموعظة- إن رجلاً سمع هذا الحديث وقال: عجيب! كيف لا أعلم أين باتت يدي! واحدة تحت جنبي والأخرى فوق الجنب الآخر، فابتلاه الله أن جعله يستيقظ ويده في مكان يستقذره.
وبعض الناس يقول: الحديث هنا معلل وظاهر العلة، فيقولون: إن الحديث قيل في المدينة وهي حجازية، والحجاز حارة، وكانوا يستجمرون ولا يستنجون، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل قباء حين نزلت فيهم الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال: (إن الله أثنى عليكم، فماذا تفعلون؟ قالوا: نتبع الحجارة بالماء) ، فما كان كل الناس يتبعون الحجارة الماء، بل يكتفون بالحجارة، فيقول بعض الناس: إن الإنسان إذا نام لا يدري أين تطيش يده، فلربما وصلت يده إلى ذلك المكان، وربما عرق، فالحجارة لا تنقي، فمن هنا يغسل يده.
ولكن الجمهور يقولون: لو أنه بات ويده مغطاة بالكفوف واستيقظ من نومه فبمقتضى هذا الحديث لا يغمسها في الإناء حتى يغسلها.
وهنا تنتج من الفقهاء أقوال هندسية تصيب وتخطئ.
فإذا كان سيتوضأ من الصنبور فإنه لا يحتاج إلى أن يغمسها، وإن كان الإناء صغيراً فسيكفئه ويتوضأ، ولكن إذا كان الإناء كبيراً وليس عنده ما نعترف به ولا يستطيع أن يميله فماذا يفعل؟ فبعض الفقهاء يقول: يأخذ الماء بفيه ويغسل يديه وبعضهم يقول: يأخذ من ثيابه ويغمسه في الماء، ثم يعصره على يده.
فغسل اليدين للمستيقظ من نومه مستقل بذاته، فإذا استيقظ من النوم وأراد أن يتوضأ، فالحديث يقول: (فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) .
مسألة: هل غسل اليدين ثلاثاً لغمسها في الإناء يجزئ عن غسل الكفين في الوضوء، كما لو أراد أن يتوضأ للظهر أو العصر، أم لابد من غسل اليدين مرة لغمسها في الإناء ومرة للوضوء؟ فهذا حكم وذاك حكم.
فلو قمت من نومك وأردت غسلهما تحت الصنبور فإنك تغسلهما ست مرات، ثلاثاً لاستيقاظك من النوم، وثلاثاً للوضوء، وهذا مقتضى نص هذا الحديث.
والذين يقولون: إنها مسألة معللة.
نقول لهم: لا دخل للتعليل في هذا، وكلما أخذ الإنسان السنة على عمومها واطمأنت نفسه إلى مقتضاها دون أن يدخل العقل فيها كلما كان ذلك أسلم له وأطيب للخاطر.
والله تعالى أعلم.