النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ

والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم!) أي: إذا أعطوا الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها متعلق بها، وهذا ظلم، كما أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط: (وإياك -تحذير- وكرائم أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه.

وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبير- فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد.

وهنا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق بالناس، وعدم الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء: الزكاة فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2.

5%) ، ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه، ولا فيها ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن ينتفعوا بما يأتيهم من أموال الأغنياء.

وهنا ينبه صلى الله عليه وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يكونوا رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال، وألا يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى.

وعمر يقول لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني: يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن في الأخذ في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما يأخذ الوسط.

(وإياك وكرائم أموالهم) .

بدلاً من إرسال المفتشين على مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في الدفاتر، يقيم صلى الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) نعم ذهب يدعو إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم الأموال، فإذا أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت غافلاً، وسيدعو على الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء: لأن هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من ينصفه، ولا بينة عنده، أو أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن بالله، وإن لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته، وهنا لا يخيبه الله.

ويقولون في خبر موسى مع قارون: لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى! يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد أن انتهى عاتب الله موسى: يا موسى! يناديك قارون عدة مرات فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.

إذاً (اتق) أي: احذر، واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم ظلمه، (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا الملأ الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان كافراً.

ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.

(والظلم ظلمات يوم القيامة) .

وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، فإن هذه التعليمات أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية.

وبالله تعالى التوفيق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015