هل من حق الميت بعد دفنه، وبعد أن فارق الدنيا وتركها، أن تلحقوه بدعوة خير وثناء عليه، أم أن تنبشوا دفاتر أعماله، وتفتشوا عن سيئاته؟! أليس يكفي أنه ترك الدنيا بما فيها وذهب؟! قوله: (لا تسبوا الأموات) أنت في حياتك مع الشخص وهو حي، لا يحق لك أن تذكر مساوئه في غيبته، قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ، ثم مثل سبحانه غيبة الحي من الحي بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ؛ فالذي يذكر مساوئه كأنه أكل لحمه ميتاً؛ ووجه الشبه: أن الغائب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الغيبة، والميت لا يستطيع أن يدفع عن نفسه من يأكله.
ومعنى أن الميت قد أفضى إلى ما قدم، يعني: ليس بزائد على ما كان منه من عمل، وليس بناقص عنه شيئاً، وقد صار بين يدي الله.
وكما يقول الشوكاني: لقد أفضى إلى ربه، وجثا بين يدي مولاه، أفتحاسبه أنت وتناقشه؟ ليس لك حق في ذلك؛ فإنه أفضى إلى ما قدم، وسيلقى جزاء عمله بين يدي ربه، وقد يجد ربه غفوراً رحيماً يغفر له ما تسيء به إليه، ويرحمه فيما تعاتبه فيه، فيكون ربه قد رحمه، وأدركه بلطفه، وأنت هنا تتمسك بمثالبه، فأنت إذاً كالقابض على الريح.
وقد قال بعض العلماء: ذكر مساوئ الأموات كغيبة الأحياء، ولكن الصحيح أنها أشد؛ لأن الحي ربما تصله غيبته فيدفع عن نفسه؛ ولكن الميت لا يستطيع ذلك.
قد يقول بعض الناس: لو كان هذا الميت مجاهراً بالمعاصي، فاسداً فاسقاً، فلا مانع من ذكر مساوئه، ونقول: مهما تصورت من سوء فعاله، فهي معه وقد لقي ربه بها، وربه أولى به منك، فلا حاجة إلى أن تتعرض له.
ولا يدخل في ذلك الجرح والتعديل، كقولهم فلان المدلس، وفلان صفته كذا، لأن هذه فيها فائدة للمسلمين، بأن يحذروا رواياته؛ لأنه يبنى عليها أحكام، وكذلك وصفه بوصف لا يعرف إلا به، كقولهم: فلان الأعرج، أو الأعمش، أو الأعشى، والنهي وارد على السب الذي لا يقصد من ورائه عرض صحيح.
ثم الرواية الأخرى: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) فالميت قد ذهب، ثم يأتي من يقول لابنه: والدك كانت صفته كذا، فهو يقول: لكن يا أخي! لماذا تسيء إليَّ في أبي، وقد انتقل إلى رحمة الله، وأفضى إلى ما قدم.