الحديث من حيث هو يسوقه المؤلف رحمه الله دليلاً لجواز الصلاة على القبر، ثم فيه تكريم أهل الصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن شخصياتهم، ثم فيه عناية النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة المساجد، هذه ثلاث نقاط محل البحث في هذا الحديث: أولاً: تكريمه صلى الله عليه وسلم لأهل الخير وفعل الخير، فهذه امرأة من عامة المسلمين، يعنى بها صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في خبرها أنه افتقدها (فقالوا: إنها مريضة، فقال: إذا ماتت فآذنوني -أي: أعلموني- فماتت ليلاً، قالوا: فكرهنا أن نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفناها، فلما أصبح سأل عنها، قلنا: ماتت، قال: هلا آذنتموني؟ -يعني: كما أخبرتكم- فاعتذروا فقالوا: كرهنا أن نشق عليك ليلاً) وفي رواية (كأنهم تقالوا أمرها) يعني: لأنها امرأة من عامة الناس، ما هي من ذوات المناصب، أو الحسب، ولا يوجد من كبار الصحابة من ينتمي إليها فتكرم من أجله، فهي امرأة عادية، فبين أبو هريرة أن فضلها وعناية النبي بها إنما هو لذاك العمل الجليل الذي كانت تقوم به، وهو أنها تقم المسجد، أي: تجمع القمامة من المسجد، أي: تقوم بعمل الكناسين، وتنظف المسجد، ومن هنا كانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها.
وفيه خدمة النساء للمساجد، ما لم توجد خلوة مع أحد من المصلين، وليس لها عمل أهم منه، فهي تقم المسجد، والمؤلف رحمه الله ساق الحديث لجواز الصلاة على القبر.
أما العناية بالمساجد فقد تقدم في هذا الكتاب المبارك في أول باب المساجد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف) تلك هي العناية بالمساجد، بل قال صلى الله عليه وسلم (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) وقال (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في جدار القبلة في مسجد من المساجد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يحتها بطرف ردائه، وقال لهم لا يؤمنكم إمامكم هذا بعد اليوم) أي أنه عزل الإمام عن الإمامة؛ لأنه لم يراع حرمة المسجد، وبعضهم قال: لأنه تنخم وهو في الصلاة أمامه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يبصق أمامه في الصلاة، وقال (فإن الله تجاه وجهه، فليبصق تحت قدمه اليسرى) وقالوا: في المنديل أو في نحو ذلك.
وقبل هذا كله جاء الأمر بذلك في كتاب الله، وذلك في موطنين: منهما قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أن ترفع، أي: حساً ومعنى، لأن رفعة البناء تدل على عظمته وتقديره، والعناية به، وانخفاض البناء يدل على تحقيره وعدم أهميته، وترفع معنوياً أيضاً بالذكر وبالعلم، وبالحفاظ عليها.
والموطن الثاني في مقارنة بين البناء وبين الصيانة والحفاظ، ففي بيت الله الحرام يقول سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] يرفع إبراهيم: إسناد رفع القواعد من البيت لإبراهيم وإسماعيل جاء معطوفاً على إبراهيم كالمساعد؛ لأن إسناد رفع القواعد لإبراهيم وحده، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لكن في العناية وفي النظافة، وفي الرعاية؛ جاء إسناد ذلك لإبراهيم وإسماعيل معاً على المشاركة، {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:125] أي: وعهدنا إليهما معاً: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} [البقرة:125] بألف التثنية، فشرَّك بينهما في العناية بالبيت الحرام في تطهيره من الأرجاس، ومن الأصنام، ومن الأوساخ، إلى آخره.
ومن هنا يتضح لنا أن العناية أهم من البناية، لأن البناية تقام مرة واحدة، فهذا المسجد النبوي الشريف، وجدنا هذه البناية الفخمة الضخمة العظيمة، انتهى أمرها بتكاليفها وميزانيتها، وبقيت الصيانة والعناية، فالبناية مرة واحدة أياً كان المشروع؛ محطة تصفية -أي تحلية المياه-، محطة توليد الكهرباء، فإذا انتهت إقامتها بقيت العناية والرعاية بها، مدة تشغيلها طول عمرها، إذاً: العناية والرعاية لكل مشروع أهم من إنشائه، فكان هنا {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا} [البقرة:125] أي: فهذه رعاية البيت أسندت إليهما معاً.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالمساجد، بل كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل خاص يجمر المسجد، أي: يأتي بالمجمرة وفيها الجمرة، وعليها العود، ليطيب بها المسجد، وكان هذا الأمر معمولاً به إلى عهد قريب حضرناه، ولا يزال حتى الآن يوم الجمعة، وكان يعهد به الأمير في رمضان في صلاة التراويح، ويطيب المسجد بالعود ويجمر.
إذاً: هذه المرأة لكونها تقوم بهذا العمل، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو حمراء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عني بها وكرمها، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] كرمها بحسن عملها، وبعنايتها ورعايتها للمسجد في أنها كانت تقمه، هذا من جانب تكريمها.
الجانب الثاني: الصلاة على قبرها، من الناحية الفقهية نجد العلماء قد يختلفون: هل يصلى على القبر بصفة عامة أم لا؟ فأول الأقوال: لا يصلى، والذين قالوا: لا يصلى استدلوا بالزيادة التي زادها مسلم (فإن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) فقالوا: (بصلاتي) هذه خاصة به صلى الله عليه وسلم، وليست صلاة كل إنسان ينور الله بها قبر من صُلِّي على قبره، والمجيزون قالوا: لقد ذهب معه أشخاص وصلوا معه، فهذه صلاة غير رسول الله من أصحابه معه، فقال المانعون: التابع ليس كالأصيل، هم تبع لرسول الله، والمجوزون قالوا: لو أنه لا يجوز أن يصلى على القبر لبيَّن صلى الله عليه وسلم وقال: لا تفعلوا أنتم، كما جاء في بيان الخصوصيات، فالذين قالوا: يصلى قالوا: لفعله صلى الله عليه وسلم ولتقريره هذا، وهو يعلم أنهم يرونه ويشاركونه في الصلاة، ويتأسون بفعله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم اختلفوا: إلى متى يصلي، فبعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام، وجاء أيضاً (أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبر رطب فصلى عليه) يعني: مدفون حديثاً، ولا يزال ترابه طرياً، وقوم قالوا: إلى شهر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن أم سعد توفيت وهو غائب، فلما قدم صلى عليها صلى الله عليه وسلم بعد دفنها) قيل: بشهر.
إذاً: الحديث جيء به لبيان الأحكام من حيث جواز الصلاة على القبر، فهناك من يمنع ويقول: هذه خصوصية، ولكن دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، والمجوزون يختلفون، فمنهم من يقول: إلى ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: إلى شهر، والبعض من يقول: ما لم يترب، أي: ما لم يصر تراباً.
فالجمهور على جواز الصلاة على القبر، ويختلفون في المدة التي يمكن أن يصلى فيها، والكلمة المجملة أن يقال: ما دام يغلب على الظن أن الميت لم يتفسخ.