وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (لو مِت قبلي لغسلتك) الحديث.
مت: بالضم والكسر والكسر أفصح.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي حديثها الذي أشرنا إليه سابقاً (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع من جنازة بالبقيع، فمر عليها عاصبة رأسها تقول: وا رأساه! فقال: بل أنا يا عائشة! وا رأساه، ثم قال لها: وما يضرك إن أنتِ مِت قبلي، فقمتُ عليكِ، وغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك؟ قالت: ما إخالك إلا أن تُعرِّس على فراشي من ليلتها) والمؤلف يسوق هذا من حديث عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) وهذا فيه دليل على أن الزوج يغسل زوجته.
إذاً: لم يبق حاجة إلى وجود الخلاف في أن الموت هل ينقضي به العقد الزوجي، أو أنه يرفع المحرمية فيما بين الزوجين؟ فالرسول يقول لـ عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) إذاً أثر الزوجية باقٍ، والذين يقولون هي تغسله وهو لا يغسلها، أو هو يغسلها وهي لا تغسله، كل هذا استنباط بعيد عن هذا النص الموجود، وقدَّمنا بأن عائشة قالت (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل رسول الله إلا أزواجه) إذن من الطرفين.
وأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر (لما توفي الصديق رضي الله تعالى عنه غسلته، ثم خرجت على الناس وهم ينتظرون، قالت: ما تَبِعُون عليَّ -اليوم شديد البرد- وقد غسَّلت أبا بكر فهل ترون عليَّ من غسل؟) وذلك لحديث: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فحمل الجمهور معنى: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) على عموم الموتى، لأن الميت عادة ربما يكون عليه أو على ثيابه أشياء إذا جاءها الماء انتشر الرذاذ فيصل إلى الإنسان المغسِّل، فينبغي أن يغتسل من هذا السبب.
وإذا حمل ميتاً فليتوضأ؛ لأنهم كانوا يحملون الموتى من بيوتهم إلى مصلى الجنائز؛ فإذا أراد الحامل له الصلاة عليه فلابد أن يكون متوضئاً من أجل أن يصلي مع الناس، قالوا: وليس حمل الميت من نواقض الوضوء، وليس تغسيل الميت موجباً للغسل، ولكن أعتقد والله تعالى أعلم أن الغسل والوضوء قبل أن يباشر تغسيل الميت؛ لأن ذلك أفضل؛ لأنهم قالوا: لا ينبغي لحائض ولا لجنب أن يغسل ميته.
إذاً: حالة غسل الميت قربة ودعاء يقدم بين يدي الله، فينبغي للشخص الذي يتقدم لهذا أن يكون على حالة طيبة.
وكذلك حمله، إذا حمله وهو متوضئ، ودعا الله له، واستغفر له ولنفسه، فإنه يكون على حالة من حالات التهيؤ للعبادة، فيكون الغُسْلُ ليس بعد الغسْلِ، ولكن كما قيل: ما قارب الشيء يعطى حكمه، مثل (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) لا يقول ذلك حينما يدخل، بل إذا أراد الدخول وذلك قبل أن يدخل.
ومثله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] أي: إذا أراد القراءة.
فالذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الندب للغسل لمن سيغسل الميت من باب كمال الحالة من ناحية عبادية أو ناحية روحية تكون مصلحة للمغسل.
ويشهد لهذا ما سيأتي في موت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا إنزالها في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (من لم يقارف الليلة فلينزل) من لم يقارف، معلوم بهذه الكناية أنه يراد بها: من لم يأت زوجته تلك الليلة فلينزل، والذي أتى زوجته يبعد، سبحان الله! لأن الذي قارف زوجته حديث عهد بأمر دنيوي وشخصي، والذي لم يقارف كأنه بعيد عن هذا، مع أن بعض العلماء يقول: الذي قارف زوجته حينما يلحد امرأة يكون أبعد من أي شيء، بخلاف الذي له مدة لم يقارف، وقيل: هذه الحالة خاصة.
فنزل عثمان بن مظعون، وبعضهم قال: الذي نزل كانت مهمته لحد الموتى، وعثمان زوجها كان موجوداً، وبعضهم يقول: إنما أراد الرسول شيئاً آخر بالنسبة لـ عثمان.
الذي يهمنا هنا هو أن الإنسان الذي يغسل الميت يجب أن يكون على حالة تكون أقرب إلى الكمال للإنسان المسلم من غيرها.
وفيه أن الزوج يغسل الزوجة، والزوجة تغسل الزوج، وقد تقدم الكلام على تغسيل النسوة الأجانب للرجل الأجنبي، وعدم التغسيل، وقلنا بأنهم يتفقون بأنه إذا ماتت امرأة في جمع من الرجال، ولا توجد امرأة تغسلها ولو حتى كتابية -فإذا وجدت امرأة كتابيه فإنها تغسليها- وبعضهم يقول: الكافر لا يغسل مسلماً أبداً؛ لأن تغسيل الميت عبادة يحتاج إلى نية، والكافر لا تصح نيته، فنحن ننوي ونغسلها أفضل من أن ندفنها بدون تغسيل، وقال بعض العلماء: الرجال ييممون المرأة، والنسوة ييممن الرجل.
أما الأطفال الذين ليست لهم عورة، وهم من دون السبع سنوات، فمن حضره من رجال أو نسوة فلا مانع من غسله، وإن كان أحمد رحمه الله يكره للرجل أن يغسل الفتاة في سن السابعة فما بعدها.
والله تعالى أعلم.