وعن عائشة: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، رواه البخاري.
هذا الأثر ساقه المؤلف رحمه الله في باب الأحكام، وهو يدل على جواز تقبيل الميت بعد موته، وهذا موقف تتحكم فيه العاطفة؛ لأنها أواخر لحظات الميت من أهله، والعاطفة تدفع أهل الميت لتوديع صاحبهم؛ فلا مانع أن يقبل الإنسان الميت في الموضع الذي قبل فيه النبي أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
بل في الموطن هذا -أيضاً- حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قبل عثمان بن مظعون وقال: أخي، وقال: رحمه الله) .
إلخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص في صفة ذلك بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل بين عينيه ثلاثاً، وقبل رأسه ثلاثاً، إلى غير ذلك.
وهذا المشهد في الواقع لا يكفي أن يمر عليه الإنسان، ولكن لابد أن يعرف دواعي هذا التقبيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما آنس الوجع، تقول عائشة (كان صلى الله عليه وسلم يمر بي -أي: في غير نوبتها- فيقول كلمة ينفعني الله بها -سواء مؤانسة في الدنيا، أو تنبيهاً للآخرة- فمر مرةً فلم يقل شيئاً، ومر ثانية فلم يقل شيئاً، فأخذت في نفسي؛ فقلت: يا جارية! قدمي الوسادة عند الباب، وشددت عصابة على رأسي -استدراراً للعطف- فمر فرأيته؛ فقلت: وارأساه؛ فقال: يا عائشة! وارأساه أنا، وتكلم خيراً وذهب، ثم نزل به المرض، ثم استأذن أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها) ثم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وقال في أول الأمر: (مروا من حضر للصلاة، فأمروا عمر، ولم يكن أبو بكر موجوداً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت عمر حينما كبر، فرفع الستار وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر -ثلاث مرات- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر، وأخذ يصلي بالناس) كم صلى أبو بكر رضي الله عنه؟ خلاف: فقيل: خمس صلوات، وقيل: عشر صلوات، وقيل: عشرين صلاة، وفي يوم الإثنين في اليوم الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر يصلي صلاة الصبح، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار، وتبسم معجباً بما يراه من انتظام المسلمين في الصلاة، نعم إنها بمثابة الثمرة لجهاد ظل ثلاثاً وعشرين سنة، من أول البعثة إلى ذلك التاريخ، وإذا بالأمة قد تقبلت الإسلام، وإذا بأصحابه قد قاموا بواجبهم على أكمل صورة.