والعلماء في كيفية التلقين يبينون أن السنة في ذلك ألا تتوجه بالأمر فتقول: يا فلان! قل لا إله إلا الله، بخلاف ما يقوله بعض المتأخرين في بعض كتبهم، فإن علماء السلف يقولون: إذا كان الميت مشغولاً بسكرات الموت أو غافلاً عن ذلك مشغولاً بنفسه فحينئذ يذكّر حتى يقول: لا إله إلا الله.
ويقولون: لا ينبغي التكرار المتوالي، ولا ينبغي توجيه الأمر إليه بقل؛ لأن الإنسان في حال الحرج والضيق لا يتحمل؛ لأن صدره ضيق، وهو مشغول بنفسه، فإذا أكثرت عليه ربما ضجر لهذا الإكثار، وربما كره أن يقول ما تلقيه عليه، وربما تكلم بكلام من منطلق تعبه وضجره فتكون أنت السبب، فقالوا: لا ينبغي أن يوجه إليه الأمر، ولا ينبغي أن يكثر عنده.
وإذا قال: لا إله إلا الله، تلقيناً من الحاضر وسكت بعدها فإنه لا ينبغي أن يعاد التلقين؛ فإن مات في هذا السكوت كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، أما إن تكلم بعد ذلك وأطال الكلام فإنك تعيدها وتقولها أيضاً دون أن توجهها بأمرٍ إليه، ودون أن تكثر عنده.
ولهذا على من يحضر عند الميت أن يكون حكيماً رفيقاً، حتى قالوا: ينبغي له أن يعرض على الميت محاسن أعماله؛ ليعظم جانب رجائه فقد ورد عند الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو يحتضر فقال: (كيف أجدك يا غلام؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع هذان في مثل هذا الموطن في قلب رجل إلا أعطاه الله مأمنه، أو أعطاه الله مطلبه) والذي ينبغي على الإنسان في تلك اللحظات أن يغلّب دائماً جانب الرجاء، يقول العلماء: الإنسان في حياته دائماً وأبداً بين الخوف والرجاء، بين الطمع والعطاء، فهو يخاف من الشر ويرجو الخير، فإذا كان الأمر كذلك فهو يعمل لتحقيق ما يرجوه ويعمل لاتقاء ما يخافه، فإذا كان في سعةٍ من الدنيا فالأولى أن نغلّب جانب الخوف؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، فإذا قدم جانب الخوف كان دائماً وأبداً على حذر {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] .
وإذا كان في اللحظات الأخيرة يجب أن يغلب جانب الرجاء؛ لأن الخوف الآن ليس له مجال، وقد جاء في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وجاء في الأثر أيضاً: [إذا عرجت الملائكة بروح العبد وصحيفته فكان في أولها كلاماً حسناً وفي آخرها كلاماً حسناً يقول الله سبحانه: أشهدكم بأني قد غفرت له ما بين هذين] وهكذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّب للغلام جانب الرجاء، ما اجتمع هذان في قلب مؤمن في هذا الوقت إلا أعطاه الله ما أنال وإلا غفر له.
فجانب الرجاء مقدم في تلك اللحظة.
ولما أصيب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه دخل عليه شاب قال: يا أمير المؤمنين! والله لا أسفاً على أمرك، إنك قسمت بالسوية، وعدلت في الرعية.
وكذا وكذا، وذكر له محاسن أعماله، وعزاه في نفسه في حياته بحسن فعاله، فلما ولى الشاب قال: ردوه، فجاءه قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك -لأن ثوبه طويل، تحت الكعبين-؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
أنقى للثوب؛ لأنه إذا جره على الأرض فإنه يجمع كل ما علق به، وأتقى لربه؛ وفي الحديث: (ما جاوز الكعبين فهو في النار) فـ عمر وهو في تلك الحالة لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أن الشاب جاء يعزيه بأحسن شيء، وما جامله في أمر نفسه بل نصحه أيضاً.
ونحن يهمنا في هذه الحال أنه يجب على من يحضر الميت من أن يغلب عنده جانب الرجاء، يذكره بحسن أفعاله التي يعرفها عنه، يذكره بأن رحمة الله وسعت كل شيء، يذكره بأن يحسن الظن بالله، ويتحين الفرص لتلقينه: لا إله إلا الله.