قال المصنف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن لبس القسي والمعصفر) رواه مسلم] .
قوله: (القَسي) اختلف في حركة قافه، فقيل بالفتح، وقيل بالكسر وكلاهما صحيح، والقِسّيّ بالتشديد: هو ما غلظ من الثياب وبعضهم يقول: هو الخز أو غيره فيه خطوط وبعضهم يقول: فيه مثل الأترجة من الحرير، مثل هذه الثياب التي تأتي مطرزة، أو يكون بين خيوطها خيط حرير، وتكون جامعة بين الحرير وغير الحرير، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع، ويتفقون على أن النهي هنا للتنزيه، أي: للكراهة وليس للتحريم؛ لأن أصلها ليس حريراً، ولكنها نوع من نسج الثياب نسبت إلى قرية مصرية تسمى (قسا) أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟) ، رواه مسلم] .
تأمل هذا الأسلوب، ف عبد الله بن عمرو يرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، و (المعصفر) : كقولك: المزعفر ومثلما تقول: المسكر والمملح فهو شيء يضاف إليه شيء آخر، فالمعصفر: هو الذي أضيف إليه العصفر، والمزعفر: هو الذي أضيف إليه الزعفران، والمسكر: هو الذي أضيف إليه السكر.
والعصفر: هو زهر القرطم، ولونه يشبه الزعفران، وليس له رائحة، والزعفران لونه أحمر يميل إلى الصفرة، وله رائحة عطرية، فلما رآهما عليه سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال: أمك أمرتك بهذا؟ كأنه يتلقى الأوامر من أمه، والذي يتلقى الأوامر من أمه في أمور عادية فهو من بر الوالدين، وهو واجب إذا كانت الأم حصيفة عاقلة توجه ولدها، لكن هذا المنهج وهذا الأسلوب فيه قرينة كراهية ما رأى عليه من اللباس، وهل يكون مدحاً للأم التي أمرته، أم ذماً له لأنه يتلقى الأوامر من أمه ويترك السنة؟ فمن تلقي الأوامر من أمه، أو من أبيه، أو زوجه وترك السنة النبوية يقال له مثل ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] ، فهنا الرسول كلمه بهذا لأنه كره هذا اللون.
والحلة التي كساها النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي هي السيراء، وفيها ألوان، فقال: رأيت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فقطعتها وقسمتها بين الفواطم زوجته وأمه وبنت جعفر.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال ل عبد الله بن عمرو: (أمك أمرتك؟) ، ولو قال له بأسلوب هادئ: يا عبد الله! هذا لا يجوز ولا ينبغي.
ورده لأمه فأمه يمكن أن تلبس هذا النوع.
فاستنتج العلماء من قوله: (أمك امرتك؟) أن هذا من حلي النساء، وأن أمه هي التي أعطته، وأمه التي كسته، وأمه عندها هذا النوع، وأمه يجوز لها هذا النوع، وفي رواية أنه قال: (فذهبت إلى أهلي وهم مسجرون التنور فسجرتها) ، وفي بعض الروايات أنه قال: أغسلها يا رسول الله؟! قال له: (احرقها) ، وفي بعض الروايات أنه لما رجع قال له رسول الله: (ماذا فعلت الحلة يا عبد الله!) قال: سجرتها التنور، قال: (هلا كسوتها أهلك!) فكيف قال له: (احرقها) ، ثم قال: هلا (كسوتها أهلك) ؟ بعضهم يقول: قوله: (احرقها) نوع من التشديد في النهي عن المنكر، وهذا ما يسمى في القانون الجنائي: مصادرة الآلة التي استعملها في الجريمة.
فلو أن جماعة ذهبوا وسرقوا محلاً بسيارة فالسيارة التي استعملت تصادر؛ لأنها ساهمت في الجريمة، وهذه الحلة للنساء، ولكن لما استعملها في غير محلها صودرت عليه وأحرقت.
وبعضهم يقول: أحرقها عبد الله بنفسه تأثراً وأسفاً عما لحقه من استعمالها، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أمك أمرتك؟) ، بينما علي رضي الله تعالى عنه رجع وقسمها بين نسائه.
وفي ترجمة عبد الله بن رواحة أمر عجيب في السمع والطاعة، فقد كان ذاهباً إلى المسجد يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في المسجد، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: (اجلس) ، فسمعها ابن رواحة وهو في الشارع فجلس في مكانه حتى أنهى صلى الله عليه وسلم الخطبة، فقيل لرسول الله: إن ابن رواحة سمعك تقول: اجلس فجلس في مكانه عند بيت بني فلان! قال (رحم الله ابن رواحة! زادك الله طاعة لله ولرسوله) .
وعلي رضي الله تعالى عنه لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر قال: (أنفذ على رسلك، ولا تلتفتن وراءك) ، فمضى علي بعض الخطوات، ثم وقف ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهمته، ولم يلتفت، بل رجع القهقرى بظهره وقال: يا رسول الله! علام أقاتلهم؟ فهذا هو منتهى الطاعة والامتثال، وما نقول: هي الطاعة العمياء كما يقول العسكريون، بل نقول: الطاعة المستبصرة طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن شعر الشباب الذي كانوا يقولونه: قالت وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفهُ ولا تنقص ولا تزد أي: صفه لي فقط، كيف حالته، من زمان ما رأيناه، كيف حالته؟ فقلت لها لو كان رهن الموت من ضمأٍ فقلت قف عن ورود الماء لم يرد أي: لو كان عطشان وهو رهن الموت، والماء أمامه فقلت له: لا ترد الماء؟! لن يرده.
فإذا كان هذا السمع والطاعة فيما بين البشر لأثر المحبة فكيف بالسمع والطاعة لله ولرسوله؟ فلا نستغرب ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أمك أمرتك بهذا؟) ، فرجع متأثراً ونادماً على ما وقع منه.
وأبو طلحة رضي الله تعالى عنه قام يصلي في بسان نخل له، فإذا بطائر الدُبس -وهو معروف عند أهل المدينة، رأسه أبيض، صغير الذنب، وهو طويل سريع الحركة- يطير، ويريد أن يخرج من البستان، فلم يجد منفذاً لتشابك أغصان بستانه، قال: فتبعته بنظري معجباً، فانتبهت، فلما انتهيت من صلاتي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته وقلت: يا رسول الله! كفارة ذلك أني أتصدق ببستاني في سبيل الله.
لقد أعجب بالبستان، وشغل عن عبادته بحسن بستانه، فرأى أن تكفير ذلك أن يخرج عن بستانه.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترعى غنمي، فجاء الذئب وأخذ منها شاة، وأنا بشر من بني الإنسان أغضب فلطمتها، ثم أسفت على ذلك أفأعتقها كفارة لذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) ، فهذا وجد أنه أخطأ، وأراد أن يكفر خطأه بما يتناسب مع ذنبه، فأخرج الجارية من ملكه وأعتقها، مع أنه يمكن أن يضربها من باب التأديب أو الحرص أو الشح على المال، لكن شعر بأنه رجل، وهي امرأة ضعيفة، وماذا تفعل مع الذئب؟ لكن الغضب جعله يضربها فتنبه، فوجد كفارة هذه الخطيئة أن يعتقها.
فـ عبد الله بن عمرو هو الذي سجرها بنفسه، وكان يمكنه أن يقسمها بين نسائه.
وقد أخذ العلماء من الحديث منع لبس الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة باللون الأحمر، وقد أخبر بعض الصحابة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، فقالوا: هذا للجواز، وهذا للكراهية وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً مصبوغاً بأحمر، فقال ما هذا -يا ابن عوف - وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المعصفر؟ قال: والله ما هذا بعصفر إنها المغرة.
والمغرة: نوع من الطين يعطي لوناً أحمر، وهو مر، ولذا كان أهل المدينة يجعلونه في خشب النخيل ونحوه، وكانوا يضعونه في الثياب الصوف أو الخشنة حتى لا يأتيها ما يفسدها.
فهذا ليس من المنهي عنه، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ بباب سد الذريعة، فقال: يا ابن عوف! إنكم رهط يقتدى بكم.
فانظر إلى التفريق بين الناس في الأحكام والفتوى، قال: إنكم رهط يقتدى بكم.
أي: فلعل شخصاً يرى عليه هذا اللون، ولا يفرق بين مغرَة وعصفر، فيقول: ابن عوف يصبغ بالأحمر.
فيذهب ويصبغ به إقتداء بالصحابي.
فيجوز هذا اللون بالمغرة من العامة، ولا يجوز من الخاصة؛ لأن الخاصة يجب عليهم أن يبتعدوا عن كل ما به شائبة شبهة، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأهل القدوة أو لأهل الخير الذين ينظر الناس إليهم أن يستعملوا الأشياء المنهي عنها ولو للكراهه؛ لأنهم أولى الناس بالابتعاد عنها.