يتفق العلماء على آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخرها مدنية نزلت بالمدينة، ولكنهم يقولون: الصلاة شرعت بمكة، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بغير وضوء، فقالوا: كان الوضوء مشروعاً قبل نزول الآية، وكان على الندب، فجاءت الآية وأوجبته، فبعد أن كان مندوباً صار واجباً.
وبعضهم يقول: كان مشروعاً زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان صلوات الله وسلامه عليه يتوضأ بمكة على شرع من قبلنا، وثبت وضوؤه صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الحديث الذي فيه أن فاطمة ابنته رضوان الله تعالى عليها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا ابنتي؟ قالت: سمعت أنهم يتآمرون عليك ليقتلوك، قال: أوفعلوا؟! ائتيني بوضوئي -أي: بالماء الذي يتوضأ به- فتوضأ وصلى ودعا الله عليهم.
فهذا إثبات للوضوء قبل المدينة.
ويقول بعض العلماء: إن جبريل عليه السلام صبيحة ليلة الإسراء والمعراج -لما فرضت الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل من صبيحتها لصلاة الظهر، وهي أول صلاة أقيمت بعد الإسراء- علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء، فتوضأ بتعليم جبريل وصلى.
ويهمنا أن مشروعية الإيجاب كانت بالمدينة، وأن عملية الوضوء كانت في مكة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أن الوضوء كان في الأمم الماضية، وذلك حينما توضأ فغسل أعضاء الوضوء مرة مرة، فغسل وجهه مرة واحدة، ويديه مرة واحدة، ومسح رأسه وغسل قدميه مرة واحدة، وقال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة بدونه) ، ثم توضأ فغسل الوجه مرتين، واليدين مرتين، ومسح مرة -لأن المسح لا يكرر على ما سيأتي- ثم غسل القدمين مرتين، ثم قال: (وهذا وضوء من كان قبلنا) ، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (وهذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فأخذوا من هذا أن الوضوء مشروع من قبل.
ويمكن القول بأن جميع أركان الإسلام كانت موجودة من قبل، فقد قال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] ، وقال تعالى لإبراهيم: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ، فوجدنا أن الصلاة سابقة.
وفي الصيام يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، وفي الحج يقول تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] ، وهذا النداء لإبراهيم.
ثم يصرح صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (كأني بموسى بن عمران على جمل أورق رحاله الليف يجأر إلى الله بالروحاء بالتلبية) .
ومالك يروي أمراً غريباً لم نعرف سره، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه نزل من منى إلى مكة، فمر بواد يقال له: وادي سرر، وبه سرحة -شجرة كبيرة-، وعندها رجل يعرفه جالس عندها، فقال: ما الذي أنزلك هنا؟ قال الرجل: أستظل.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بوادي سرر سرحة سُرّ تحتها سبعون نبياً) ، وبعض العلماء يقول: (سُرّ) معناه: قطع حبل سرته، وولد هناك، فما الذي جمّعهم، وفي أي زمن؟ الله أعلم.
وبعضهم يقول: (سُرّ) بمعنى السرور، أي: جاءته النبوة تحت هذه الشجرة، فحصل له السرور بذلك.
والله تعالى أعلم، وهذا الأثر موجود، والشراح حاروا في فهمه أو كنهه، والذي يهمنا قوله: (سبعون نبياً) .
كذلك الزكاة، فهي أخت الصلاة.
ونقرأ في قصص القرآن قصة أصحاب الجنتين حيث قال تعالى عنهم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:17-19] .
وفي الحديث قصة صاحب السحابة مع الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض، فسمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان.
فإذا به يمشي في ظل تلك السحابة إلى أن جاءت إلى أرض حرة صلبة وأمطرت، وتجمع الماء في شرجة، فتبعه فإذا به يجد رجلاً يحول الماء في أحواض له، فقال: سلام الله عليك يا فلان.
فنظر إليه وقال: كيف عرفتني وأنت لست من أهل هذه البلدة؟ فمن أين جئت؟ قال: جئت من كذا.
قال: ما الذي أعلمك باسمي؟ قال: أخبرني أولاً ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: حتى تخبرني.
فأخبره فقال: إن يكن فإني إذا حصدتها قسمت الغلة ثلاثة أقسام، قسم لي ولعيالي، وقسم أرده فيها، وقسم أتصدق به.
وقضية النفر الثلاثة الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وهم الأقرع والأعمى والأبرص دليل على أن الزكاة كانت مشروعة فيمن قبلنا، فالزكاة موجودة، والحج موجود، والصيام موجود، والصلاة موجودة، والوضوء كان موجوداً.
وهناك حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) .
قالوا: وكذلك قضية الراهب الذي اتهمته امرأة، فمكنت راعياً منها فحملت، ثم ألقت هذا الحمل عند صومعة الراهب، وتعرفون قصته لما جاءته أمه تناديه كان يقول: يا رب! أمي وصلاتي.
فلم يجبها حتى أنهى الصلاة، وفي ثلاثة أيام تأتيه وهو في الصلاة، ولا يرد عليها من أجل أنه في الصلاة، فقالت: لا أماتك الله حتى ترى وجوه المومسات، فوقع ذلك، فلما اتهموه بالزنا وهدموا صومعته قال: أمهلوني.
فتوضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن يبرئه، ثم جاء ونخس الطفل بإصبعه وقال له: من أبوك؟ قال: الراعي فلان، فرجعوا وتأسفوا وقالوا: نبنيها لك من ذهب وفضة، قال: لا، ردوها كما كانت.
والذي يهمنا ما ذكره العلماء من أن الوضوء كان مشروعاً في الأمم الماضية كما هو مشروع عندنا.