قال رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه) ، رواه البيهقي] .
(أنعم) (ونعمة) : مأخوذان من النعومة، يقال: هذا حرير ناعم.
أي: لا يؤثر على اليد، ولا يؤذي، بخلاف الصوف الخشن أو الشعر، فالوسادة التي تكون من الشعر تكون خشنة، حتى لو جلست عليها تتعب، والأرض الناعمة تستطيع أن تتكئ وتجلس عليها، ولو كانت خشنة تقلق إذا جلست عليها، وكذلك يقولون: حياة ناعمة، وفي عين النعيم، فالنعيم والنعمة من النعومة، وهو لين الملمس، وهو يدل على الراحة والدعة والطمأنينة، ويقابل هذا الخشونة، يقال: عيش خشن أو: عيشة خشنة، بمعنى: ضيق وعدم سعة وتقتير، بخلاف النعمة والنعيم.
قوله: (إذا أنعم الله) إنعام الله سبحانه وتعالى على الخلق لا حصر له، قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، وفي سورة الفاتحة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والاستقامة.
لأن النعم تكون دنيوية، ودينية بالهداية والتوفيق والقبول، وأعظمها لطالب العلم أن يشرح الله سبحانه وتعالى صدره، وينير بصيرته، وييسر له الفقه والفهم في الدين، ثم يكمل هذه النعمة بالتوفيق للعمل بما علم، وهذه أعظم النعم عند الله.
فإذا أنعم الله على عبد نعمة، سواءٌ أكانت في البدن، أم كانت في العقل والعلم، أم كانت في المال، أم كانت في الجاه، أم كانت في أي مجال من مجالات النعم فإن الله يحب أن يرى أثر هذه النعمة على عبده، فلا ينعم عليك ثم أنت تخفيها، فلو شاء لأعطاها لغيرك، فإذا أخفيتها كأنك تخفي نعمة الله عليك، لكن بين أثرها؛ لأن من شكر النعمة أن تظهرها اعترافاً منك بالمنعم عليك، فإذا أعطاك الله مالاً يجب أن يظهر آثار المال عليك، بأن تكرم الجيران، وتعطي المحتاج، ويظهر هذا العطاء بنعم الله على ما تنفقه، وكذلك على نفسك، وابدأ بنفسك أولاً.
فأول ما ينبغي إظهار نعمة المال على صاحبه، ثم على من يليه من أصحاب الحقوق علية، وفي الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) .
ثم وسع الدائرة حتى يظهر أثر هذه النعمة، وحتى يتحدث الصالحون: فلان يشكر النعمة ويبذلها في طريقها وإذا أنعم الله عليك بالجاه يحب أن تظهر أثر هذه النعمة عليك، بأن تسعى في مصالح الآخرين، وترفع حوائجهم إلى من لم يصلوا إليهم، وإن أعطاك الله صحة في البدن فكذلك، فإذا مشيت في الطريق ووجدت إنساناً مريضاً ساعدته، أو حملته وحملت متاعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل ذبح شاة ويريد أن يسلخها ولا يعرف السلخ، والرسول يعرف، فشمر عن كمه، وأدخل يده صلى الله عليه وسلم بين الجلد واللحم وسلخها، وقال: (هكذا فافعل) ، فيعلم الصنعة، ويرشد الضال، وكل هذا من إظهار النعم، فإذا رزق الإنسان مالاً فيلزم على صاحب المال أن يظهر النعمة؛ لأنه إذا أخفاها كأنه يجحد نعمة المنعم عليه، فيظن أنه مسكين ما عنده شيء، وقد أعطاه مالاً، ولكنه يدفنه في التراب ويكنزه.
ذكر ابن حجر في فتح الباري (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل ثياباً رثة قديمة، فقال: يا فلان! إذا آتاك الله مالاً فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك) ، وقد قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، والتحدث بالنعمة بأن تتحدث عنها، أو هي تتحدث عن نفسها.
فكونك تتحدث عنها أن تقول: الحمد لله.
إن ربنا أنعم علي هذه السنة بكذا.
أو: جاءتني صنعة كذا.
أو: المحصول هذه السنة كثير والحمد لله.
أو: التجارة -والحمد لله- ربحت كذا، لأشياء تتحدث بها إظهاراً للنعمة وشكراً لله، أو أنك حينما تخرجها هي بنفسها تتكلم، كما يقال: أبت الدراهم إلا أن تطل أعناقها.
فهي بنفسها تتحدث عن نفسها.
وإذا كان هذا في باب اللباس فليس معنى ذلك أن نظهر في أبهة وفي زهو وخيلاء، والبخاري رحمه الله صدر باب اللباس في الجزء العاشر من فتح الباري بحديث: (كل واشرب والبس ما شئت في غير مخيلة ولا إسراف) ، قال ابن حجر: مهما لبست من طيب الثياب وأغلاها ثمناً بلا خيلاء ولا إسراف فلا مانع.
وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت من الرجل يلبس الصوف والخشن من الثياب ويترك الناعم من الكتان، ويأكل الخشن من العيش ويترك اللين من الخبز! فهذا التقشف مع وجود النعمة يعتبر جحوداً لها وإخفاء لها، وهذا لا يليق، فالمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث لأن الإنسان إذا حرم عليه الحرير لأنه ناعم ولين ومريح قد يظن أن بقية الثياب أيضاً كذلك، فكأنه قال لك: لا.
بل أظهر نعمة الله عليك في مطعمك، وفي ملبسك، وفي مسكنك، وفي جميع حالاتك، من غير خيلاء، ومن غير إسراف، والله تعالى أعلم.