وفي هذه الآية الكريمة يذكر المفسرون عجائب النمل، وكتب الحديث والتفسير، وكتب العلوم العامة كعلم الحيوانات، وعلوم الحشرات، وكتب مليئة بأخبار النملة، وهذا من العجب.
يقولون عن هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} [النمل:18] : هل للنمل وادٍ؟ والجواب: نعم.
وأتثبت الكتب والدراسات الحديثة أن في بعض الدول -خاصة في أمريكا وفي أفريقيا- ودياناً لا يسكنها إلا النمل، وقد يتخذ له بيوتاً، أو مساكن كما قالت النملة: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18] ، فللنمل مساكن، ويتفق علماء الحيوانات والحشرات وكتب التفسير على أن نظام النمل في بيته كنظام الإنسان سواءً، ففي بيوته دهاليز وطرقات وحُجَر، فحجرة يخزن فيها الطعام، وحجرة يضع فيها البيض الخاص بالنمل، وحجر لتصريف المياه، فإذا دخل المطر فإن حجر المياه تكون منخفضة إلى أسفل، والحجر التي فيها الطعام تكون مرتفعة إلى أعلى.
ويذكر بعض العلماء أن النمل يبني له قرية يسمونها (مستعمرة النمل) على اصطلاحهم، وتكون هرمية الشكل، فمن أعلى تنتهي برأس، ومن أسفل تنتهي بقاعدة، يقول بعض الكتّاب: ربما تسع اثني عشر رجلاً.
وتكون على طبقات ودرجات، وكل طبقة فيها عدة بيوت، ومجموعها يسمى (قرية النمل) ، أو (مستعمرة النمل) ، وذكر الجاحظ عن أبي موسى الأشعري أنه قال: إن للنمل سادة.
فسئل قتادة: وما معنى السادة؟ وقال: ساداته الذين يخرجون طلائع يطلبون الغذاء من كل جانب، ثم يرجعون وينذرون جماعتهم فيأتون إليه، وكلهم يتفقون على أن النمل أعطي من الحكم والسياسة ما أعطيه ساسة الأمة، أي: ساسة الدول، ومن الهندسة والمعرفة والقوة ما لا يرى نظيره عند البشر.
فمن الحكمة عند النمل أنه يجمع طعام الشتاء في الصيف، فإذا جمعه وخزنه فلقه نصفين -وانظر إلى الإلهام والغريزة-.
وبعض العلماء يقول: إنه يفلق الحبة نصفين حتى لا تنبت، وبعضهم يقول: هو لا ينصفها، وإنما يأتي إلى منبت الزراع فيخرم الحبة منه، ويخرج ما سيكون نباتاً مخافة أنه إذا بقي في الجحر وجاءته رطوبة يزرع وينبت، فلا يستفيد منه شيئاً، إلا حبة الكزبرة، فإنه يقسمها أربعة أقسام، فالبر والذرة وغيرهما يأخذ منه محل المنبت، وحبة الكزبرة بالذات يقسمها أربعاً؛ لأن حبة الكزبرة بذاتها فلقتان، وكل فلقة صالحة أن تنبت وحدها، فلو فلقت الكزبرة فلقتين فكل فلقة ستنبت نبتة، كما تنبت حبة البر الكاملة، فالنمل لا يكتفي بكسر حب الكزبرة نصفين كما يفعل في حبة البر، لكن يكسرها أربعاً ليقسم كل نصف حتى لا ينبت النصف وحده.
وإذا قدر ودخل المطر عنده، أو جاءت الرطوبة انتظر طلوع الشمس، وأخرج كل ما عنده في مستودعاته ونشرها في الشمس، أو في الليالي المقمرة؛ لأنه يستفيد من ضوء القمر كما يستفيد من حرارة أشعة الشمس، فإذا ما جف وأمن عليه العفونة رده في مكانه، ويذكرون من عجائب النمل ما لا يستطيع إنسان أن يحصيه؛ فإن هناك أشياء كثيرة وغريبة وعجيبة، ولتقرأ في هذا كتب الأدب، ككتاب الجاحظ، ومن كتب الثقافة العامة (حياة الحيوان) ، أو أنواع التفسير، ومنها تفسير الفخر الرازي، ولكنه أشار إشارة خفيفة إلى عموم وأصول سياسة النمل وحياته.
ويتفق العلماء إلى أن أقوى مخلوق هو النملة، بمعنى أنه يحمل أضعاف وزنه، بخلاف الإنسان، فإنه في علم الرياضة أول درجة في البطولة هي من يحمل وزنه، فمن استطاع أن يحمل وزنه دخل في درجة البطولة، وكلما استطاع حمل أكثر من وزنه دخل في البطولة أكثر، أما النملة فتحمل أضعاف وزنها، حتى قال بعضهم: تحمل الصفف ثلاث مائة مرة.
ومن طبائع النمل أنه لا يجب الكذب، بل يقتل الكاذب، وذكروا عن بعض الأشخاص أنه كان في فلاة، وكان يتناول طعاماً، فسقطت منه فتاتة من طعامه، فإذا بنملة تأتي، ومن العجيب في شأن النمل والذباب أنك تكون في مكان لا نمل فيه ولا ذباب البتة، فإذا أخرجت طعاماً وسقط منه شيء على الأرض فسرعان ما تجد نملة عندك، أو ذبابة تحوم حولك، فتلك النملة هي رائدة القوم، فإن استطاعت أن تحمل ما سقط على الأرض أخذته بفيها وذهبت إلى جحرها، وإن لم تستطع أخذت قليلاً منه -إن أمكنها- وذهبت إلى جحرها، واستدعت جماعة يتعاونون على هذا الطعام الصغير، ويحملونه إلى الجحر، فهذا الشخص سقطت منه فتاتة، فجاءت النملة تحملها فما قدرت فذهبت، ولم تلبث أن جاءت بمجموعة من النمل، ففطن أنها ذهبت تدعوهم، فلما اقتربوا من تلك الفتاتة حملها هذا الرجل، فأخذ النمل في البحث في المنطقة فما وجد شيئاً فرجع، ثم وضعها بعد ذلك، فجاءت نفس النملة ووجدتها، فرجعت إلى جماعتها، فجاءت فحمل الرجل تلك الفتاتة، وفي المرة الثالثة لما لم يجدوا تلك الفتاتة جاءوا إلى النملة التي أخبرتهم وقتلوها لأنها كذبت عليهم.
فهو ينظم عمله، وينظم جماعته، ولديه ترتيب في بيضه، وفي حضانته، وفي غير ذلك، حتى قال بعض الناس: إنه يختزن طعاماً يكفيه عدة أعوام، ولسنا نطيل الأمر في ذلك، ومن أراد التوسع في أخباره فليرجع إلى تلك المراجع التي أشرنا إليها أو غيرها.
ويهمنا في هذا البحث الطلب والرجاء، وأن ندرك أن هذه النملة أدركت حياتها، وأيقنت بربها، وآمنت بقدرته وأنه القادر على ذلك، وإدراك النمل وإدراك الحيوان ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية أيضاً.
ففي القرآن الكريم ذكر الهدهد، وهو طائر من الطيور -كما أن النملة حشرة من الحشرات- ذهب فمكث غير بعيد، وجاء إلى نبي الله سليمان وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] ، وأخبره عن بلقيس، ثم كان من أمره أن أنكر عليهم السجود للشمس والقمر من دون الله، فلم يكن أن أكتشف بلقيس فحسب، بل أنكر عليها الشرك بالله في عبادة الشمس والقمر، ثم كان من أمره ما كان.
وذكر مالك رحمه الله في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه تقوم فيه الساعة، وقال: وما من دابة إلا تصغي بسمعها بعد طلوع الفجر من كل يوم جمعة مخافة أن تقوم الساعة، أو شفقاً من الساعة.
فالدواب تميز بين الخميس والجمعة والسبت، وتصغي بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر، وليس في الظهر والعصر، وتؤمن بأن القيامة تقوم في يوم الجمعة، وتصغي بسمعها.
وعلى هذا فجميع الحيوانات تدرك، ومن ذلك البعير الذي ند عن صاحبه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب الرسول إليه، وأراد أن يدخل، فقال أبو بكر: على رسلك -يا رسول الله- فالجمل هائج فقال: (على رسلك أنت) ، ودخل صلى الله عليه وسلم، واستقبله البعير، ووضع فمه على رأسه صلى الله عليه وسلم، وأصغى إليه رسول الله، ثم انتهى بعد ذلك وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) أي: إن قانون المعاوضة لم يعتدل، ولم يتزن، فتكلفه أكثر مما تعلفه، وهذا ليس عدلاً، فلما انتهى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! لكأن الجمل يعلم أنك رسول الله، فكيف جاءك وكيف خضع لك، وكيف جاء وكلمك وفهمت منه؟ فقال: (يا أبا بكر! ما بين لابتيها -أي: لابتي المدينة، وهي الحجارة الحارة الشرقية، والحجارة الحارة الغربية- من شجر أو حجر أو مدر أو حيوان أو طير إلا ويعلم أني رسول الله) .
وقد نكون أطلنا في هذا الموضوع، ولكن يهمنا تنبيه العقول، وتنبيه الضمائر، ولفت الأنظار إلى أن الكائنات كلها تعلم بوجود الله، وتؤمن بالله، وتؤمن باليوم الآخر، وهذا الذي أردنا التنبيه عليه، وإن كان خارجاً عن موضوعنا.