الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ] .
في هذا النص الكريم أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي أحدث هذا في عهده، فبين لنا وشرع لنا ماذا نفعل.
وأحب أن أنبه على بعض المعتقدات الجاهلة -ولا أقول: الجاهلية-، فعندما يقع كسوف أو خسوف للقمر يدق بعض الجهال الطبول، ويطوفون بالشوارع ويلعبون، فهل دق الطبول واللعب يرفع الكسوف عن القمر؟ فنحمد الله أن هذا الحدث وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا ماذا نفعل، وهؤلاء الذين يدقون الطبول ربما لم يعلموا السنة، أو أنهم علموها ولكن لم يطبقوا شيئاً منها، فنحمد الله سبحانه على أن الرسول علمنا.
قوله: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم) .
إبراهيم ولد من مارية، ومن الكنى التي كني بها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو إبراهيم) ، وتوفي إبراهيم وهو صغير، وحين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يحضر قال: (أن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ... ) ، ووقع هذا الحدث -الكسوف- متزامناً مع موته، فقالوا تلك المقالة؛ لأن الكسوف عندهم في اعتقادهم لا يكون إلا لأحد أمرين: إما أن يحدث ذلك لموت عظيم حزناً عليه، وإما لوقوعه في غير ما اعتادوه في علم الفلك عندهم.
ويجب أن نعلم أن العرب هم أول أمة عنيت بالفلك، وأول أمة برعت فيه، وأول أمة وضعت خرائط للأرض، وأول أمة بينت وحددت رقعة وتضاريس الكرة الأرضية من بحار وجبال، وهذه الخرائط الأساسية هي المبدأ الأساسي في أوروبا في دراسة الفلك في العالم.
فالعرب كان لديهم علوم في الفلك ما سبقهم إليها أحد، ونعلم استفادة العرب في تقدير الزمن بحركة النجوم، كما قال الله عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، وكما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] ، فكانوا يعرفون الاتجاه ويعرفون المسير، ويؤرخون لظهور كل نجم من النجوم السيارة الاثني عشر، فهم كانوا يعرفون متى تكسف، ومتى لا تكسف، فاستغربوا كونها كسفت في غير وقتها، ولا نقول: إنهم يجهلون ذلك.
كلا؛ فالنبي صلى الله عليه بيّن أن هذه المقالة خاطئة، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) ، وآيات الله كثيرة وعظيمة، كالرياح والجبال والبحار والأشجار والسموات والأرض، فالآيات الكونية عديدة جداً، وكل آية لها مهمتها، ولكن هنا قال: (يخوف الله بهما عباده) ، وهذا هو الواقع، فأنت لو تأملت في القمر فإنه يكون في تمامه وهو مكتمل، وفجأة يضيق عليه ويبدأ بالتناقض.
وبعض العلماء يقول: إن حركة الكسوف لا دخل لها في تعارض الأفلاك بعضها مع بعض، وإنما هو أمر يتجلى الله فيه للكوكب فيحدث له ذلك، ولكن لا نستطيع أن نقول هذا، وإنما هي أقوال تقال، وقد حدث أنهم عينوا أنه سيكسف الكوكب كسوفاً جزئياً في وقت كذا في مكان كذا، وكسوفاً كلياً في الساعة الفلانية في مكان كذا، وحدث كما عينوا، وقد اجتمع علماء الفلك في موريتانيا في مرة من المرات وعلقوا المراصد ورصدوا الكسوف كاملاً للشمس.
قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) .
إذا عرفنا أنهما لا ينكسفان لموته فكيف لحياته؟ قالوا: ربما كان مريضاً مرضاً شديداً وتعافى، فنقول: المعافاة نعمة فكيف انكسفت لها الشمس؟ قالوا: يمكن أنها انكسفت لولادة شخص سيئ سيسيئ إلى العالم، فانكسفت لما سيلحق بالعالم من مضار ومفاسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالمتقابلين فقال: (آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد) وتأكيداً لهذا النفي أنها لا تنكسف لموت أحد قال: (ولا لحياته) .
والله أعلم.