قال -رحمه الله-: "عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) " وفي الحديث الذي يليه الآن الإتيان بالشهادة قبل السؤال في الحديث الأول سيق مساق المدح، وفي الحديث الثاني حديث عمران: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون)) ... إلى آخره، سيق الإدلاء بالشهادة قبل الاستشهاد مساق الذم، وهنا يكون بين الحديثين تعارض، في الحديث الأول يمدح من يدلي بالشهادة قبل طلبها، وفي الحديث الثاني يذم من أدلى بالشهادة قبل طلبها، وللجمع بين الحديثين عند أهل العلم أكثر من نظر ومسلك، فمنهم من يقول: إن حديث زيد بن خالد الذي فيه مدح من يدلي بشهادته قبل طلبها في حالة ما إذا خشي ضياع الحق بأن يكون صاحب الحق لا يدري ولا يعرف هذه الشهادة، فيتقدم الشاهد إلى صاحب الحق، ويقول: عندي لك شهادة، وحينئذٍ يمدح لئلا يضيع الحق، أما إذا كان صاحب الحق يعرف أن هذا عنده شهادة في هذه القضية، فإن مبادرة الشاهد قبل طلبها لا شك أنه يورث تهمة، أنه يريد نفع المشهود له، وحينئذٍ يتهم في حقه، فيذم إذا أدلى بها قبل طلبها.
منهم من يفرق بين حقوق الآدميين، وما يتعلق بحقوق الله -جل وعلا- من أمر الاحتساب، فيجعل الحديث الأول، حديث زيد بن خالد منصب على ما إذا كانت الشهادة في حق لله -جل وعلا-، يدلي بها، ويبادر بإبدائها، فيتقدم بها قبل أن تطلب منه، والحديث الثاني حديث عمران فيما إذا كانت في حقوق الآدميين؛ لأنه بالنسبة لحق الله -جل وعلا- لا يتهم إذا بادر بالإدلاء بها قبل أن تطلب، لا يتهم؛ لأنه لا يحوز حظاً لنفسه، ولا لمن يتوقع ويرجو نفعه، بخلاف ما إذا كان في حق آدمي، فإنه قد يتهم.