تواريخ تكتب في حياة مؤلفيها، ومؤلفوها يعيشون في ظل دول، الدول هذه إن كانت مكرمة لهذا المؤرخ أشاد بها، وإن تضرر أو لم يكرم نال منها، والناس معروف تصرفاتهم في هذا الباب، لكن في الجملة التواريخ لا يقال: إنها مثل كتب الحديث ممحصة ومنقحة، لا، فيها الأخبار الضعيفة بكثرة، وفيها الأخبار المقبولة، وفيها ما يثبت وفيها ما لا يثبت، لكن باعتبار أنها لا يبنى عليها أحكام يتساهلون في رواتها، فينقلون الأخبار والأحداث عن كل أحد، وطالب العلم لو اعتنى بتاريخ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- باعتباره إمام مفسر محدث يمحص، لو اعتنى به طالب العلم كفاه، يكفيه؛ لأنه منذ بدء الخلق إلى منتصف القرن الثامن، فيه كفاية، تكلم على الأنبياء وعن قصصهم، وأفاض في هذا معتمداً في ذلك على الكتاب والسنة، ومن تقدمه ومن سبقه من المؤرخين، ثم بعد ذلك بدأت السيرة، وأطال فيها النفس جداً إلى نهاية السادس، ثم بدأ بتاريخ الخلفاء الراشدين، ثم الدولة الأموية والعباسية، وترجم لأهل العلم وأهل الفضل، وذكر من عنده مخالفة في معتقد ونحوه، وانتقد بعض المؤرخين الذين أشادوا ببعض المبتدعة، كتاب نافع جداً، ولذا لما ترجم لابن الراوندي، وهو ملحد زنديق -نسأل الله السلامة والعافية- ذكر أن ابن خلكان في وفيات الأعيان ترجم له، ابن كثير لما ترجم له ذكر ما نُقل عنه من طوام قدح في الشرع، وقدح في النبي -عليه الصلاة والسلام-، ورد على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ولذا رمي بالزندقة، قال الحافظ ابن كثير: إن ابن خلكان ترجم له على عادته في إفاضته في تراجم الأدباء، والشعراء، واختصاره الشديد في تراجم أهل العلم، ولم يذكر مما حصل منه مما هو قدح في الشريعة وصاحب الشريعة، قال: "وكأن الكلب لم يأكل له عجيناً" يعني ما كأن الأمر يعنيه من قريب ولا من بعيد، فهذا يدل على أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله- له عناية بهذا الشأن، فتاريخه من أفضل التواريخ، قبله تاريخ الإمام محمد بن جرير الطبري، تاريخ نافع يستفاد منه إلى نهاية القرن الثالث، يعني بداية القرن الرابع، وفيه قصص وأخبار تحتاج إلى تنقيح، وابن جرير -رحمه الله- يكتفي بذكر الإسناد، وعند المتقدمين أن العهدة تبرأ بذكر