المقصود أن المسألة وتفاضل الأعمال إنما يكون بحسب ما يقر في قلب العبد، وبحسب حاجة الناس إلى هذا العمل، لو قيل: إن الزراعة أفضل الأعمال فاتجه الناس كلهم إلى الزراعة، وأهملوا الجوانب الأخرى، وفاض المنتوج الزراعي، وزاد عن الحاجة، والناس بحاجة إلى أمور أخرى، عطلت أمور أخرى، نقول: هذه الأمور الأخرى أفضل من الزراعة؛ لأنه قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، وهذه الجملة تستعمل في كل العلوم، الناس بحاجة ماسة إلى من يعلمهم ويوجههم ويرشدهم ويبصرهم بما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، ولو بالأجرة، وإذا احتيج إلى مثل هذا فهذا العمل من أفضل الأعمال، وعلى كل حال المسألة ليس فيها قول فصل، وإنما تتفاوت هذه الأعمال بحسب ما يقر في قلب العامل، وبحسب ما يُحتاج إليه من الأعمال.
((وكل بيع مبرور)) خالص من شوائب الغش والخداع والتدليس، والعقود المحرمة، والأيمان الفاجرة لتنفيق السلع، هذا أيضاً من أنفع ومن أفضل الأعمال، وأطيب المكاسب، لكن على من يزاول هذه المهنة والتجارة والبيع والشراء أن يتعلم ما يصحح هذه العقود، لئلا يقع في معاملة يظنها صحيحة وهي في حقيقة الأمر ليست بصحيحة، وعليه أيضاً أن يتحلى بالورع، وأن يجتنب الشبهات، وكان الناس إلى عهد قريب يحرجون من يفتيهم بإقناعهم عن وجه الحل، إذا سألوا عن معاملة فقال المفتي: حلال هم بحاجة إلى من يقنعهم بوجه الحل اتقاءً للشبهة، والآن مع ما وجد في أسواق المسلمين وغير المسلمين من باب أولى من انسعار ولهث وراء الدنيا تجد المستفتي إذا سأل عن مسألة قيل له: حرام قال: أقنعني أنها حرام، والسبب في هذا وجود من يتساهل في أمر الإفتاء، والله المستعان.
فعلى الإنسان أن يتقي الشبهات فضلاً عن المحرمات، لا يجوز للمسلم أن يقدم على معاملة محرمة بحال، ولو فتح له الشيطان أبواب، وقال له: تتخلص منها، هذه نسبة يسيرة، أقدم عليها ثم تخلص منها، أبداً، لا يجوز الإقدام على المحرم، لكن إذا أقدم على شيء يجزم بإباحته أو يغلب على الظن إباحته، ثم تبين له فيما بعد أنه لحقه شيء من الشبهات، أو شيء مما لا يجوز في معاملته يتخلص منه لا بأس، وفرق بين هذا وهذا، فرق بين من يقدم على المعاملة المحرمة ولو كانت نسبتها يسيرة، وفرق بين يلحقه شيء من الشبهة أو شيء من المحرم من غير قصد، ثم يتخلص منه، فلا بد من ملاحظة هذا.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.