قال رحمه الله تعالى: [فأما القول الباطل فإذا بُيّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه هذا على أحد؟ ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات، وأنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]، وأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعقلون، وأنهم في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، وأنهم في ريبهم يترددون، وأنهم يعمهون، وإنما نشأ والله أعلم الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه أو {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته؛ فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة، وليس الأمر كذلك].
من الأمور التي ينبغي أن نفهمها من مثل هذه المقالات، وهي متقررة في الكتاب والسنة أنه يجب أن نفرق في فهم الحق بين الحقائق العلمية المشاهدة والمعلومة بالتجربة وبالحواس، وبين الحقائق الغيبية، فالحقائق العلمية التجريبية سواء في سلوك الإنسان، أو في العلم التجريبي، أو في أي أمر من أمور الشهادة وسيلتها مدارك الإنسان، سواء كان مسلماً أو كافراً، فكل إنسان يدرك بعقله أن (1+1=2) هذه مسألة لا تحتاج أن يتميز بها المهتدي عن الضال، وكل إنسان يدرك أن هناك فرقاً بين اللون الأبيض واللون الأسود، إذا كانت عنده الحاسة التي يدرك بها.
وإذا كانت عنده حاسة الشم فإنه يستطيع أن يدرك المشموم الطيب من المشموم الخبيث، ولا أحد ينازعه في ذلك وهكذا.
فالمدركات التي تخضع للحواس حقائقها تدرك بوسائلها التي أعطاها الله للبشر، لكن المدركات الغيبية ليس لها إلا طريق واحد، وهذا الطريق لا يمكن أن يصل إليه الإنسان إلا بتوفيق الله عز وجل والتزام الوحي، بهداية من الله، وإذا حجبه الله عن الهداية ولم يلتزم بالوحي فمهما أوتي من العقل والذكاء والقدرات العلمية والعلوم التجريبية فلن يصل إلى حقيقة غيبية أبداً، لا يثبتها ولا ينفيها، لا يستطيع بهذه الوسائل مهما كانت جبّارة عند الإنسان، لو اجتمعت قوى البشر كلهم لا يمكن أن ينفوا حقيقة من حقائق الغيب، ولا أن يثبتوها بدون الوحي، وهذا هو الفارق بين الحقائق.
إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يعجب من وقوع هؤلاء في مخالفة البدهيات؛ لأنهم أضلهم الله، بل عليه أن يسأل ربه العافية والهداية والتوفيق؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم المحفوظ بحفظ الله يقول: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك).
فالإنسان إذا انقلب قلبه عن الهدى إلى الباطل لا يدرك البدهيات الغيبية أبداً، حتى وإن كانت بدهية، حتى فيما يتعلق بالله عز وجل وبوجوده قد يوجد من الناس من ينقلب فكره وعقله وتفكيره حتى ينكر ربما ذاته هو، فقد وجد من الفلاسفة المشائين من أحدثوا فلسفة يعتقد فيها بعضهم أن وجودك أنت فيه شك، وهذا المذهب وجد عند الغربيين، فعندهم أنك يا من تعبر عن نفسك أن تفترض أن وجودك فيه شك، هذه مخالفة للبدهيات.
فإذاً يجب على المسلم دائماً وطالب العلم بخاصة أن يستحضر هذا الأمر، وهو أنه لا يعجب من وجود أناس قد ينتسبون للحق، وقد يقولون بأنهم مسلمون، وقد يقولون بأنهم أهل علم وفقه ودراية، ومع ذلك يذهلون عن البدهيات الشرعية؛ لأن إدراكها إنما يكون بتوفيق الله عز وجل، لا بمدارك الإنسان، فإذا رأى مثل هذه الأمور فيجب على المسلم أن يستحضر سؤال ربه العافية، وأن يسأل الله الثبات على الحق والهدى.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن].
يعني: نحن لا نعلم الموجود كله، إنما نعلم معنى كلمة الوجود، الواحد منا يعلم معنى الوجود، أو معنى الموجود ومعنى المعدوم، يعني: التصور الذهني، فإذا عرفنا أن لغة أي إنسان مؤدية إلى التعبير عن المفاهيم، فإنا نعلم أن التعبير عن المعدوم المقصود به عكس الموجود، وهو اللا شيء، وهو العدم المحض؛ لأنه لا يسمى المعدوم معدوماً إلا إذا كان غير موجود.
قال رحمه الله تعالى: [والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل].
هذا على حسب المدارك العقلية.
قال رحمه الله تعالى: [ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب].
قوله: (يعلم) هنا بمعنى أنه يتصور، وليس بمعنى أنه يعلم بدون تعليم، نحن ما علمنا آدم والأنبياء، ولا علمنا القيامة والحساب إلا بما علمنا الله عز وجل عن طريق كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قصد الشيخ هنا بقوله: (يعلم) بمعنى أنه يتخيل ويتصور ما ورد في الخطاب الشرعي، فلما جاءنا في الخطاب الشرعي خبر عن آدم علمنا بوجود آدم، وتخيلنا لآدم صورة، وكل منا الآن في ذهنه صورة عن آدم، وهي تقرب إلى الحقيقة، الصورة الإجمالية أما الصورة التفصيلية لا تكون إلا لمن رأى ونحن لم نر، إنما آمنا بالغيب، ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك.