الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فدرس اليوم سيكون فيما يتعلق برد شيخ الإسلام على أهل الإلحاد والحلول والاتحاد، وسنجد أنه كرر كثيراً من المسائل، وأحياناً يستطرد استطرادات في مسائل أجمل فيها في مواضع أخرى، فمن هنا سننتقي من خلال هذا المجلد مواضيع معينة تتعلق بأهم مناهج أهل الحلول والاتحاد، وأهم أشخاصهم الذين تأثرت بهم طوائف من هذه الأمة، وعلى رأسهم ابن عربي، وقرأنا في الدرس الماضي جملة مما قاله ابن عربي، واليوم أيضاً نعرج على جزء آخر مما عرضه شيخ الإسلام ابن تيمية من مقالة ابن عربي، ثم ننتقل بعد ذلك إلى آخرين، ما سنبدأ به هذه المقالة من مقالات ابن عربي والرد عليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المقالة الأولى: مقالة ابن عربي صاحب (فصوص الحكم).
وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير؛ ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى.
والله أعلم بما مات عليه فإن مقالته مبنية على أصلين.
أحدهما: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة].
سيكرر الشيخ مسألة: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، وهذه المسألة من الناحية العقلية والبدهية غير معقولة وغير سائغة؛ لأن العدم ما سمي عدماً إلا لأنه لا يقبل الوصف في الوجود أصلاً، والثبوت لا يوصف به العدم، فقولهم: إن المعدوم شيء ثابت في العدم.
راجع إلى أنهم يعتقدون أن الوجود كله إنما يكون من عناصر أولية، وهذه العناصر الأولية يعبرون عنها بالعدم، ومع أن هذا من الناحية العقلية غير معقول لكن هذه مقولتهم؛ لأنهم لا يعتقدون لله عز وجل تميزاً عن المخلوقات، أو زعموا أن المعدوم شيء ثابت في العدم وهو العناصر الأولية للوجود؛ لأنهم لا يؤمنون بأن الله يخلق من اللا شيء شيئاً؛ لأن هذا يؤدي إلى تميز المخلوق عن الخالق وهم لا يرون التميز، ولذا لا يرون الخالق متميزاً عن المخلوق، فهم دهرية، لكنهم أرادوا أن يحموا أنفسهم من نتائج الإلحاد في وقت عز الإسلام والمسلمين، فتلونوا بهذا التلون، وإلا فهم فلاسفة دهرية أصحاب وحدة وجود لا يرون للخالق تميّزاً، فإنهم لو قالوا: إن هناك شيئاً اسمه عدم، للزم أن يكون الله عز وجل خلق من العدم أو من اللا شيء، ولزم أن الخالق غير المخلوق وأن المخلوق غير الخالق، وهم لا يقولون بذلك، يقولون: ما الخلق إلا مظهر من مظاهر الخالق، فعلى هذا أنكروا أن يكون المعدوم عدماً، إنما قالوا: هو ثابت في العدم.
قال رحمه الله تعالى: [وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون: إن كل معدوم يمكن وجوده، فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم].
يعني: هم يرون أن عناصر الخلق موجودة قبل ظهور الخلق، لم يوجدها الله من لا شيء، فهي عناصر موجودة، وهذا هو المذهب الذي يقوم عليه أغلب النظريات الغربية اليوم، لذلك أصحاب العلم الحديث قامت أكثر نظرياتهم على إنكار الغيب، ولا يرون أن الموجودات وجدت من العدم، وأن جميع الموجودات ما وجد منها وما سيوجد عناصره موجودة أصلاً في الكون، وليس لله فضل ولا لخلقه ميزة في إيجاده للخلق، إنما الخلق وجد بموجب عناصر معينة بها تكونت المخلوقات.
وهذا مذهب فلسفي قامت عليه الوثنية اليونانية والرومانية القديمة، وارتكزت عليه أيضاً العلمانية الحديثة، التي قامت على إثرها النهضة المدنية الحديثة في الغرب، ولذلك تجدون أن المدنية الحديثة غير متوازنة؛ لأنها قامت على إشباع المادة دون الروح، وقامت على إنكار الوحي وإنكار الحق، واستعلت وبطرت وظنت أنها انتصرت على الحق؛ لأنها قامت على جهودهم العلوم التجريبية الحديثة، فظنوا أن أسس هذا العلم إنما هي مادية بحتة وليس وراءها أي أمر من أمور الغيب.
قال رحمه الله تعالى: [لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت.
لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، وقد كفّرهم بها طوائف من متكلمة السنة، فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون: إن عين وجودها عين وجود الحق.
وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها، وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.
وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث.
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت ف