قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم ابتدءوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله؛ فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي.
وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب المسند ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفاً صالحاً، وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم والترمذي ونحوهما؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظّم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولاً وفروعاً].
أشار الشيخ في المقطع السابق إلى منهجية مهمة جداً ينبغي أن يفهمها طلاب العلم، وما أكثر الأصول المنهجية التي ذكرها شيخ الإسلام عن السلف، لكن هذه مهمة جداً في هذا الوقت الذي كثر فيه التصنيف والتأليف، وكثر فيه الاستطراد وتشقيق الكلام وحشو العلم، ينبغي أن ننبه على ضرورة التزام منهج السلف في تقرير العقيدة وبيانها، وهو أنهم يبدءون بما بدأ الله به، ويبدءون بما هو الأصل في تقرير مسائل الدين، يبدءون بالأهم فالأهم، وهذا منهج للتأليف ومنهج للدعوة أيضاً، ينبغي أن يبدأ المسلم وطالب العلم والعالم في أي أمر بتقرير الدين وبتقرير التوحيد، ابتداء من بدء الوحي ومصادر الدين ومنهج التلقي، ثم بيان أصول الإيمان وما يحقق توحيد الله من قبل العباد، ولا يعني ذلك إغفال الجوانب الأخرى، لكنها تأتي ضمناً، فتقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله جاء للوصول إلى عبادته، وتقرير الربوبية جاء للوصول إلى عبادة الله عز وجل، فلا يصح أن يبدأ بأمور فرعية؛ لأن ذلك يؤدي غالباً إلى إبعاد القلوب والعقول عن تقبل الهدى.
فمنهج السلف في تصنيف العقائد وتقرير العقيدة يبدأ بتقرير ما يتعلق بتوحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيد الربوبية والإلهيات دون فصل واحد عن الآخر؛ لأن هذا هو المطلوب من العباد، وهو الذي يحتاجونه، وهو الذي لا بد فيه من شرع مفصّل، وهذا عكس منهج المتكلمين والفلاسفة، فالمتكلمون والفلاسفة أول ما يبدءون في تقرير الدين بمسألة وجود الله، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، ثم يعرّجون على مسألة وحدانية الله، وهذا أيضاً مما لا يخالف فيه أحد، ثم يعرّجون على مسألة تقرير الصفات بقواعد عقلية وفلسفية، أيضاً لو أنهم بدءوا بتقرير الصفات على منهج السلف لكان الأمر يسيراً وسهلاً، ولكان منهجهم قريباً من المنهج الحق، لكنهم يعرّجون على تقرير الصفات لله عز وجل بمناهجهم الكلامية التي ينفون بها صفات الله، أو يؤولونها على مختلف رؤيتهم.
ثم بعد ذلك أيضاً لو أنهم توصلوا بهذه الأساليب إلى توحيد الإلهية لكان الأمر فيه فائدة، وإن كانت فائدة عسيرة لا تتم إلا عبر الدخول في الشبهات والشكوك التي تمرض القلوب، كذلك لو أنهم ختموا مناهجهم وطرائقهم وأسلوبهم في تقرير التوحيد بتوحيد الإلهية لكان الأمر مقارباً، لكنهم ما عرّجوا على توحيد الألوهية، توحيد الألوهية لم يرد في كتبهم إلا نادراً، وهذا دليل فساد المسلك والمنهج، وأنهم تكلموا في قضايا فطرية ليست محل خلاف عند البشر، وإن خالف فيها بعض النزّاع من البشر، لكن ليست محل خلاف عند جماهير الأمم، ثم إنهم قرروها على مبادئ فلسفية تؤدي إلى شرك أكثر مما تؤدي إلى اليقين، ولذلك كان الواحد منهم لا يسلم من الشبهات والاعتراض عليها، وافتراض الشبهات والاعتراض عليها، فلا يصل بذلك إلى نتيجة، وأعظم من هذا كله أنهم صرفوا الناس عن الجد والعبادة إلى الجدل والمراء والمناظرات؛ بسبب سلوكهم هذا المنهج كما سيأتي بيانه.
الخلاصة وهو ما أردت أن نتوقف عنده: هو أن منهج السلف تقرير التوحيد المطلوب من العباد، والتوصل إليه بتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية لا حرج، لكن لا لتقرير البدهيات؛ لأنها واضحة، لكن منهج المتكلمين عكس ذلك، فهم يقفون عند مسائل بدهية ويتوهمون أن أمامهم خصوماً وإنما هم معترضون، والأمر لا يعدو أن تكون هناك شياطين في رءوسهم أوحت لهم ووسوست لهم وشككتهم، فظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعاً.