بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذا الدرس الذي بين يدينا درس مفيد، وإن كان فيه بعض الكلاميات وبعض المعاني التي تشمئز منها النفس، وبعض الأمور لا وجود لها في بلدنا ولا بيئتنا، لكنها مسالك سلكها أناس من بني جلدتنا الآن، فالحداثيون وكثير من الأدباء واقعون فيما سيتكلم عنه الشيخ الآن في مسألة أقول ابن عربي وإلحادياته، وأصبحوا يمجدونه في الصحف بأسلوب خبيث، فهم يستعملون التقية في استخدامهم تحت ما يسمى الشعر الحرّ، والمقالات الحداثية، فهم يرمزون إلى معان سيأتي الكلام عنها وأشير إليها في مواطنها، ولذلك أحببت أن نقرأ هذا المقطع، ونقف عند بعض الجوانب فيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المسئول من إحسان شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أثابه الله الجنة أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل: الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف فقال أحد الرجلين: هذا القول كفر؛ فإن القائل جعل الرب والعبد حقاً واحداً ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف.
فقال له الرجل الثاني: ما فهمت المعنى، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده؛ فإن القائل قال: الرب حق والعبد حق، أي: الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبداً ولا العبد رباً كما زعمت.
ثم قال: يا ليت شعري من المكلف؟ مع علمه أن التكليف حق؛ فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت، والميت ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد -وإن كان حياً- فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقو العبد على القيام بالتكليف؛ لما قدر على ذلك، فالفعل لله حقيقة وللعبد مجازاً، ودليل ذلك قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله].
لا تزال المسألة بين شخصين، كل واحد له شبهة، وهذا له حجة وهذا له شبهة، لكن قبل أن نتجاوز هذا الكلام يتطلب أموراً تأصيلية إذا استحضرناها، فإنه سيسهل علينا فهم كلام شيخ الإسلام عندما يجيب، وهذا موطن التعليق عليها.
فالشخص الآخر الذي ينزع إلى نزعة وحدة الوجود لهذا الشخص الذي يقول: إن الشخص مع ربه كالميت مع الغاسل، وأن الفعل لله حقيقة وللعبد مجاز، هذا القول هو قول الجبرية الجهمية، حتى قبل أن يظهر ابن عربي، ودخل على المتصوفة، وصار مذهب غالب المتصوفة في القرن الرابع والخامس والسادس، ثم لما جاء القرن السادس والسابع بلوره ابن عربي على مذهب فلسفي إلحادي صريح.
فمعنى هذا أن مذهب ابن عربي له أصول، وأن كلام الجهمية كما تصور السلف وتوقعوا وتفرسوا أن القول بالجبر سيؤدي بأناس إلى الإلحاد، هذا قاله السلف أيام الجهم وبعد الجهم، فما قالوه هو الذي صار، فهؤلاء الصوفية فلسفوه وجعلوا له قواعد ومناهج، وهو زعمهم أن الإنسان لا إرادة له، وأنه مجبور، وأنه كالريشة في مهب الهواء، وأنه كالميت أمام مغسله، وأنه لا حول له ولا قوة، وأن فعل العبد مجاز لا حقيقة له.
هذا المذهب الباطل صار نهجاً له أصول وله فلسفات وله قواعد وله شبهات وله مناظرات ودفاعات عن أهله، ثم انتهى إلى القول بوحدة الوجود، وهذا هو محل النقاش بين هذين الشخصين، والأبيات التي مرت هي من أبيات أصحاب وحدة الوجود.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد عُلم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق؛ فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال، وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق؟].
سيجيب الشيخ على هذا السؤال الذي يتضمن مناقشة بين شخصين، لكن هذا الكلام تضمن حكمة مفيدة جداً لنا في هذا الوقت، فطلاب العلم الآن ابتلوا بكثرة الشبهات التي انتشرت في المجتمع، وفتكت بعقول أجيالنا فتكاً ذريعاً، بدأت مظاهره تخرج لولا بحمد الله أن السنة لا تزال قوية، والعلم لا زال مهيمناً، والسلطان فيه قوة ضد الباطل المعلن، لولا ذلك لرأيتم عجباً.
فمن خلال الركام والشرار الذي نراه تحت الرماد تظهر لنا مظاهر من انجراف كثير من شبابنا في الأفكار الخطيرة المكفرة بشكل عجيب جداً؛ بسبب الفضائيات والإنترنت، وبسبب طائفة من المنافقين بين ظهرانينا، حيث بدءوا يفتنون الناس عن السنة، ويوقعونهم في البدعة، وإلا من يصدق أنه يوجد شباب الآن اقتنعوا بمذهب المعتزلة، يوجد شباب الآن انجرفوا مع مذهب الحداثة الإلحادي الباطني، شباب من أبناء جلدتنا ومن أبناء مجتمعنا وليسوا قلة وهم يكثرون، لكن الحمد لله لا تزال للسنة هيبة، ومع ذلك لا بد من الاحتياط وسد الذريعة وأخذ الأهبة، فكل منكم