قال رحمه الله تعالى: [وأما الطريقة الفلسفية الكلامية: فإنهم ابتدءوا بنفوسهم، فجعلوها هي الأصل الذي يفرِّعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، فتكلموا في إدراكهم للعلم أنه تارة يكون بالحس، وتارة بالعقل، وتارة بهما].
هذا إشارة إلى منهج من أخطر المناهج الكلامية، وأخطر أصول المتكلمين التي اصطبغت بها علوم الأمة الإسلامية عموماً، إلا من عصمه الله وهم أهل السنة والجماعة.
وهذا المنهج تأثرت به مناهج كثيرة بين المسلمين، فإنهم يعولون في تقرير الدين وفي تقرير الأصول العامة على مدركات عقولهم، وهي مدركات محدودة، وهذا خلاف منهج الحق، فإن المسلمات وأصول الدين وما يتعلق بالله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه، وما يتعلق بقضايا الشرع؛ كل ذلك لا يجوز للمسلم أن يبتدئ تقريره من هواه أو موازينه أو أصوله ومناهجه التي ينتمي إليها، ولا من مداركه الخاصة: إدراكاته العقلية، ومواهبه من ذكاء وغيرها.
فلا يجوز أن يعتمد في تقرير دينه على هذا الأصل، وهذا الاعتماد الخاطئ هو الذي يسلكه العقلانيون الآن، يسلكون في تقرير الدين والحكم على الأشياء الشرعية، بل وحتى على مصائر الأمة ومصالحها العظمى على مقررات عقولهم، ثم يأتون بالدليل ليعضد قولهم، ويردون ما لا يعضد قولهم أو يؤولونه، هذا منهج سائد عند جميع أهل الأهواء، يتفق فيه المتقدمون والمتأخرون، وهو أنهم يعتمدون في طرائقهم على أن يبتدئوا في الاعتماد في تقرير الدين ومصالح العباد: من أنفسهم، من عقولهم، من مقررات أفكار البشر، من مبادئ البشر؛ ولذلك تجدهم يتحاكمون إلى مبادئ البشر، ويجعلون واقع البشرية هو الحجة.
فأنت عندما تناقش متكلماً أو متفلسفاً أو متحذلقاً من هؤلاء المتحذلقين الآن -كفانا الله شرهم- في كثير من القضايا يضرب لك مثلاً من الواقع، والواقع ليس دليلاً، نعم الإسلام يعالج الواقع، لكن يجب ألا أجعل الواقع هو الحجة، بل الدليل هو الحجة، ولن أعدم من دليل يعالج واقع المسلمين أبداً.
فأحكام الإسلام عامة على الأصل، وهناك ضرورات، فلا أجعل واقع الأمة وواقع البشرية وواقع الناس حتى واقع المسلمين هو الذي يرغمني بأن أطوع بفكري وبعقلي القاصر الأدلة الشرعية والدين؛ ليتماشى مع أحوال الناس ويبررها.
وهذا كما أنه يكون في أمور العقائد يكون في أمور الأحكام والمواقف؛ ولذلك نجدهم يجعلون مثلهم الأعلى الحياة الغربية، ومن تأمل الحياة الغربية يجد أنها حياة تعيسة، هي من خارجها ديكور منمق، لكنها تنطوي على كل معاني الفساد والرذيلة والكفر، والدمار للنفس البشرية وللمجتمع البشري كله، تنطوي على كل معاني الانهيار والفساد والبعد عن منهج الله عز وجل، وتنطوي على معاني الشقاء، وهي في ظاهرها كالآلة، تجد فيها أشكالاً تعجب الناس الذين همهم الظواهر فقط؛ ولذلك أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين والمتأخرين لا يتكلمون عن الآخرة، وليست على بالهم، نجاة المسلمين في الآخرة ليست على بالهم، يهمهم واقع المسلمين في دنياهم، فتجدهم يطنطنون ويجعجعون حول ضرورة النهوض بالمسلمين اقتصادياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً، وما علموا أن ذلك لا يكون إلا باستقامة قلوب الناس على دين الله عز وجل، وبتعبيد الناس لله وحده، وأنهم إذا استقامت قلوبهم وعبدوا الله وحده هيأ الله عز وجل الدنيا لهم وأتتهم وهي راغمة.
إذاً: التعويل على النفس والاعتماد على العقل والرأي الشخصي وتقرير الدين من خلاله هو الفارق بين أهل السنة وبين الذي يسلكون هذا المسلك، أهل السنة بحمد الله يبحثون عن الدليل، وماذا يوجه إليه الشرع؟ وماذا يريد الله عز وجل من العباد؟ وماذا وجهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال قوله أو فعله أو تقريره؟ ثم إذا عرفنا ماذا وجهنا الشرع؛ أخذنا أمورنا ومشاكلنا ومسائل الدنيا فطبقناها على هذا الأصل.
فلا نعتمد في تقرير الدين على النفس والعقل كما يفعل الكثير اليوم، وهذا أمر مهم جداً في الفارق بين أهل الأهواء والبدع والافتراق وعلى رأسهم أهل الكلام، وبين أهل السنة الذين يعتمدون على شرع الله عز وجل.
أما ما قاله الشيخ إسماعيل الكوراني للمتكلم: أنتم تقولون: إن الله يعرف بالدليل، وقول شيخ الإسلام بعده: (فيه إشارة إلى الطريقة العبادية) فقصده أن هذه القاعدة التي تقوم بها العبادة عند المتصوفة: أنهم يجعلون مرتكز العبادة المعرفة بالله عز وجل التي يصلون إليها برياضة النفوس والرياضة التعبدية، فالشيخ يقول: إن هذه الطريقة ليست سليمة على كل حال.
فالطريقة العبادية وسيلة من الوسائل الشرعية، ولكنها إذا خلت من التزام الشرع فقد يكون فيها نوع من الانحراف.
فالمقصود بالعبادية: التعبدية، والطريقة التعبدية إذا قصرناها على المعرفة الذاتية فهذا لا يجوز، أي: معرفة الواردة على النفوس هذا لا ينبغي، لكن لو جمعنا في الطريقة العبادية بين الاهتداء بالشرع مع تعبيد القلوب لله وما يهدي النفوس من مقتضى الفطرة من هنا تكتمل العبادة المطلوبة على ما يرضي الله عز وجل.
قال رحمه ال