قال رحمه الله تعالى: [وإنما الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج.
والمتكلم يظن أنه بطريقته التي انفرد بها قد وافق طريقة القرآن: تارة في إثبات الربوبية، وتارة في إثبات الوحدانية، وتارة في إثبات النبوة، وتارة في إثبات المعاد، وهو مخطئ في كثير من ذلك أو أكثره مثل هذا الموضع].
سيذكر الشيخ هذه الطرائق فلا نستعجلها، يعني ما سلكه المتكلمون في الطرائق التي ظنوا أنهم وافقوا بها القرآن، وهم أخطئوا في هذا، سيبدأ فيه الشيخ بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه: منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتياج إلى قياس كلي، يقال فيه: وكل محدث فلا بد له من محدث، أو كل ممكن فلا بد له من مرجح، أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية].
هنا سيدخل الشيخ في موضوع يحتاج إلى التمهيد، يقول: إن إثبات الخالق عز وجل وإثبات ربوبية الله وإلهيته ما جاءت بطرق فلسفية معقدة، جاءت بالاستدلال بنفس الآيات، فالله عز وجل لفت أنظار العباد إلى خلقه؛ ليستدلوا بذلك على أمرين: الأمر الأول بدهي لا يحتاج إلى تكلف: وهو أنه الخالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وقوله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] فالله عز وجل في استدلاله على ربوبيته وإلهيته ما استعمل المقدمات المعقدة التي أتى بها أهل الكلام، كمسألة المُحدِث والمُحدَث، لابد للمحدث من محدث، ولابد لكل ممكن من واجب، وهذه أمور تشطح بالفطرة والعقل السليم إلى معان غامضة، فالله عز وجل استعمل البراهين مباشرة دون مقدمات؛ لأن المقدمات تحتاج إلى إعمال عقلي صعب، والإعمال العقلي الصعب غالب الناس لا يدركونه ولا يستطيعونه، والذين يستطيعونه أيضاً يحتاجون إلى كد للذهن، والذهن إذا كُد في إدراك بدهية اهتزت قناعته في البدهيات، يعني: مثل: لو قلت لإنسان: والشمس في رابعة النهار: أيش رأيك الشمس طالعة؟ فهو بهذا السؤال سيفاجأ؛ إما أنه لا يصدق أنك جاد بسؤالك هذا، فيحتاج إلى أن يتعب ذهنه هل تلغّز وتخدعه؟ هل تريد أن تضحك عليه وتقصد معنى آخر؟ هل تقصد شمساً أم بشراً؟ لأن الشمس طالعة، وهي تدنو وتكاد تدمغ رأسك، فكذلك استعمال المقدمات العقلية عند المتكلمين في إثبات وجود الله ووحدانيته من هذا النوع، من صرف الناس عن البدهيات إلى التشكيك، ولذلك قال الله عز وجل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم:10] ثم قال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] فالله عز وجل من أساليبه التي ذكرها في إثبات وجوده أنه يذكر الاستدلال على ذلك بنفس آياته: السماوات، والنجوم، والشجر، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والحر، والبرد إلى آخره، آياته التي خلقها في عباده هي الدليل، من غير أن نستعمل مقدمات معقدة أو ألفاظاً تبعد الذهن عن مجال البدهيات.
والأمر الثاني سيذكره الشيخ فيما بعد، لكن لابد أن أقرنه بهذا؛ لأنه هو الثمرة التي نريد أن نفرق بها بين منهج السلف ومناهج المتكلمين المفاليس، نسأل الله العافية: وهو أن الله عز وجل حينما استدل بالدلالة الفطرية المباشرة دون مقدمات على ربوبيته ووجوده وخلقه إنما أراد بذلك أن يلزم العباد بعبادته، ولذلك كلما ذكر آية من آيات الربوبية، قال: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95] {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] يعني: عن عبادة الله، كيف تصرفون إلى الشرك؟ كيف تُصرفون عن توحيد الله، فهذه هي الغائية، المتكلمون لم يوفقوا لهذه الغاية، وهذه عقوبة لهم حينما استعملوا طريقة غير مشروعة على تقرير التوحيد، تاهوا ولم يصلوا إلى الغاية الكبرى التي بعث الله بها النبيين، والتي خلق الله من أجلها الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ذُهلوا عنها، وهذه عقوية نسأل الله السلامة، وكل من نهج نهجاً بدعياً فإنه لا يوفق للهدى عن طريق البدعة، وهذه قاعدة: كل من نهج نهجاً بدعياً في تقرير الدين في الجزئيات أو الكليات فإنه لا يوفق للهداية عن طريق البدعة، بل العكس البدعة تجره إلى بدعة وتجره إلى ضلالة، وتعميه عن الحق، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل الأهواء بأنهم تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، يعني: مرض يجر إلى مرض، ثم يأخذ أوصال جسمه وصلة وصلة حتى يهلك الجسم كله، نسأل الله السلامة.
قال رحمه الله تعالى: [أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال: سبب الافتقار إلى الصانع هل هـ