قال رحمه الله تعالى: [فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوب منه].
يريد الشيخ أن يبين للمرسل إليه المعاني الباطلة بالأسلوب المؤدب غير المباشر في النقد، فاستعمل مصطلحات الصوفية لجرهم إلى المعاني الموافقة للحق، يقول: (فيغيب ويفنى) هذه الكلمات ليست من الكلمات الشرعية، يعني: الغياب والفناء، ولا ينبغي أن يستعملها المسلم الذي سلم من هذه الاتجاهات، لكن الشيخ استعملها لجرهم إلى المعنى الصحيح، فيقول: (يغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني) يعني: يلهو وينشغل بتوحيد الربوبية عما هو مأمور به ومطلوب منه وهو توحيد الإلهية، فهو يشير إلى خطئهم في أنهم يركزون على جانب الربوبية ويغفلون أو يضعف عندهم التركيز على جانب الألوهية؛ ولذلك يكثرون من التعبد والتأمل والتحنث، ويقل عندهم دعاء السؤال من الله عز وجل، ويقل عندهم أيضاً الاهتمام بجانب العبادة المحضة من الصلوات، والصيام، والصدقات، وبذل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد الذي هو من مقتضيات العبادة.
قال رحمه الله تعالى: [فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضاً ومطلوب منه، وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, والأمر بما أمر به والنهي عما نهى عنه، والحب فيه والبغض فيه.
ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول؛ فهو يشبه القدرية المشركية، الذين قالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148].
ومن أخذ بالثاني دون الأول؛ فهو من القدرية المجوسية، الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاء جميع الكائنات، كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة].
يقصد بالأول: اعتبار جانب الربوبية كما تفعل المتصوفة وإغفال جانب الإلهية، ويقصد بالثاني العكس: اعتبار جانب التشريع والشرع والأمر، وإغفال جانب الربوبية الذي هو القدر.
إذاً: فالصوفية يعنون بجانب القدر ويهملون الشرع، والآخرون المعتزلة ومن سلك سبيلهم يعنون بجانب الشرع والأمر والنهي، ويغفلون جانب القدر، أو يختل منهجهم في جانب القدر.
والحق وسط بين ذلك وذاك؛ فإن الحق هو اعتبار الأمرين، المسلم لا بد أن يعبد الله عز وجل مؤمناً بقدره وملتزماً بأمره، يجمع بين الأمر والقدر، كما ورد في الشرع وفق قواعد وضوابط شرعية، ليس مجرد جمع إقراري دون التزام الأصول والقواعد التي يكون فيها التزام الشرع مع التسليم بالقدر.
قال رحمه الله تعالى: [والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم، وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدو].
يبدو لي أن عبارة (خفو العدو) مندرجة خطأً؛ فتحذف؛ لأن الكلام يستقيم بدونها، وهي كلمة لا معنى لها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة وغيرهم؛ فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به، فيفيدهم أحوالاً فيها ما هو فاسد، يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود].
البدود: هي الأوثان، فمن أسمائها عند الهنود وفي آسيا الشرقية: البدود.