قال رحمه الله تعالى: [وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -التي هي أصل الأعمال- المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24].
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقاً بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان].
يريد الشيخ رحمه الله أن يجر العلماء المهتدين ممن يستعملون المصطلحات الصوفية إلى المعاني الشرعية، فكلمة الوجد والذوق التي استعملها هي كلمات ومصطلحات صوفية، الأصل أن نتجنبها، ولسنا بحاجة إليها، ولم ترد في الكتاب والسنة، والاشتباه فيها أكثر، فهي مشتبهة، والغالب أنها تستعمل على الوجه الباطل، لكن الشيخ يحاول أن يجر الذين ابتلوا باستعمال هذه المصطلحات من العلماء والعبَّاد إلى المعاني الشرعية التي يمكن أن تحتملها ألفاظ هذه المصطلحات، مع أنه ينفي المعاني البدعية، وينوه دائماً عن فسادها وعن ابتداعها، فهو يشير في قوله: (المحبة الإيمانية الموجبة للذوق الإيماني والوجد به) استعمل هذه المصطلحات ليشير إلى أن الوجد والذوق كل منهما مقيد بالمعاني الشرعية التي يجب أن ترد إلى الكتاب والسنة، وإلى معاني الإيمان وثمراته.
قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)، فجعل ذوق طعم الإيمان معلقاً بالرضا بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقاً بالمحبة؛ ليفرق صلى الله عليه وسلم بين الذوق والوجد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين غيره، كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئاً فله ذوق بحسب محبته.
ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده.
وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال المفَرَّق في الملتين قبلنا، وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله].
أراد الشيخ أن يبين هنا أن الملتين السابقتين: ملة موسى عليه السلام، وملة عيسى عليه السلام، كل واحدة منهما تميزت بميزة، وأن الكمال الذي وصف الله به هذه الأمة وميزها به مفَرَّق بين الملتين، فملة موسى عليه السلام تميزت بالشدة والعزة والقوة؛ لأنها كانت رسالة إلى أهل الكبرياء والتعالي الفراعنة، ثم إلى بني إسرائيل الذين احتاجوا إلى هذا الموقف إزاء الباطل، والرحمة في ملة عيسى عليه السلام؛ ولذلك عيسى لم يبعث إلى سلطان كما بعث موسى إلى سلطان، فميز الله ملة موسى عليه السلام بالشدة والعزة على أعداء الله، وميزت رسالة عيسى عليه السلام بالرحمة والرفق، فجمع الله هاتين الخصلتين في هذه الأمة، جعل في هذه الأمة القوة والعزة على الكافرين، وجعل الرحمة والذلة للمؤمنين.
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق].
يعني: الحب المجمل المطلق هو الذي لا يصرف إلى معين، هذا الحب ل