بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وسنشرع اليوم في استكمال درس الفتاوى المجلد الثاني، كان الشيخ رحمه الله يتحدث عن أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ثم فرّع الحديث عن القدرية، وقسّم القدرية إلى قسمين: القدرية المجوسية، وهم قدرية المعتزلة ومن سبقهم، وهم الذين قال فيهم: (وأما الأولون في تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه) فهو يعني بذلك كما أشرت في الدرس السابق أنهم على درجات منهم: من يكفر، وهم الذين أنكروا مراتب القدر الأربع، ومنهم: من يشك في كفره، وهم الذين أنكروا بعض مراتب القدر بتأول، ومنهم: من لا يحكم عليه بالكفر، وهم الذين تأولوا في مسألة أفعال العباد فقط، تأولوا ولم ينكروا مراتب القدر الأربع، لكن عندهم شبهات في القدر.
وسيتحدث الآن عن مجمل هذه الفرق، وخاصة الجهمية الجبرية التي انتقلت إلى الصوفية، وانبثقت عنها وحدة الوجود والاتحاد والحلول.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وأما الأولون ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه.
وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحداً أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه ألا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته ولا بأكثر منها.
وأكثر هؤلاء إنما يشيرون إلى ذلك عند أهواء أنفسهم، لرفع الملام عنهم، وإلا فإذا كان لهم هذا مع أحد قابلوه وقاتلوه واعتدوا عليه أيضاً، ولا يقفون عند حد، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، بل هم كما قال الله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] ظلمة جهال، مثل السبع العادي، يفعلون بحكم الأهواء المحضة، ويدفعون عن أنفسهم الملام والعذل، أو ما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجبر الباطل، وبملاحظة القدر النافذ معرضين عن الأمر والنهي، ولا يفعلون مثل ذلك بمن اعتدى عليهم وظلمهم وآذاهم، بل ولا بمن قصر في حقوقهم، بل ولا بمن أطاع الله فأمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه.
وقد بسطت الكلام في هؤلاء القدرية والقسم الأول، وذكرت القدرية الإبليسية في غير هذا الموضع؛ وإنما الغرض هنا التنبيه على معاقد الأقوال].