قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض؟ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي)، ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين وفسرهما].
أحب أن أشير إلى المعاني المجملة التي أراد الشيخ أن يفسر النص بالنص وهذا ما ذكرته لكم في أول القاعدة: أنه إذا وردت هذه الألفاظ المجملة فإنا نفسرها بالألفاظ الأخرى الواردة في الأحاديث الأخرى، وأحياناً يأتي التفسير في الحديث نفسه، فهذا الحديث هو تفسير نصي قاطع على أن المقصود بهذه المعاني المجملة هو المعنى الذي يميز الخالق عن المخلوق، ولذلك لما توهم الإشكال في قول الله عز وجل في الحديث القدسي: (عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟) فوجد التوهم عند المخاطب، فلما وجد فسر في الحديث نفسه، فيقول: (أما علمت أن عبدي فلاناً مرض) لكن يبقى الإشكال عند أهل الحلول والاتحاد على أنه اعتبر نفسه هو عبده، وهذا أيضاً يفسره الحديث فقال: (فلو عدته لوجدتني عنده)، العندية عقلاً وشرعاً ولغة تعني: التمايز، فلا أحد يقول عن نفسه: أنا عند نفسي لا عنده غير.
إذاً: العندية تعني التمايز ولا شك؛ فلذلك قال: (فلو عدته لوجدتني عنده)، وهل معنى هذا أن الله عز وجل بذاته يوجد عند المخلوق؟ لا، هذا منفي عقلاً وشرعاً، ومنفي بمقتضى النصوص وبداهة العقول، فيبقى ما معنى كون الله عنده؟ فسره بعد ذلك بأن عبده فلاناً مرض وفلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك، عندي، أي: لو أطعمته لوجدت أجر ذلك عندي، هذا معنى كون العندية لعبده تعني العندية الخاصة والقرب الخاص، والرعاية الخاصة من الله عز وجل لعباده الخلص، فلا شك أن المقصود أجر ذلك وثوابه وجزاء العمل؛ لأن العمل وجد.
فإذاً: الحديث فسر بعضه بعضاً على ثلاث درجات: أولاً: جعل العبد غير الرب سبحانه.
ومقتضى الحديث الثاني: أنه فسر المعنى على التمييز بين الله عز وجل وبين عبده.
ثالثاً: أنه فسر المعنى بالعندية (لوجدتني عنده) ثم فسر العندية بالجزاء فقال: (فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي) فانتفى المعنى البدعي الضال والمعنى الشركي الذي عليه أهل الأهواء والبدع من المتصوفة والاتحادية والحلولية وأصحاب وحدة الوجود وغيرهم، ممن مال إلى الباطل، واشتغل بهذه المتشابهات؛ ليصرف الناس عن الحق، وهذه المعاني المتشابهة هي التي جعلها الله عز وجل فتنة للذين في قلوبهم زيغ، كما قال عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، هذا المتشابه الغيبي، والمتشابه غير الغيبي الذي هو في مقدور البشر، قال الله فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]؛ لأن القراءة الصحيحة في القرآن بمثابة النص، يعني: كل قراءة كأنها آية، فمثلاً: الآية التي فيها ثلاث قراءات هي عبارة عن تفهم معنى ثلاث آيات، لكنها آية واحدة، وهذا من إعجاز القرآن، يعني: كل قراءة تحمل معنى غير الآخر، ولفظ القرآن واحد، لكن يكون على الوقف والوصل ونحو ذلك.
فالوقف يعني معنى، والوصل يعني معنى آخر، ولا تضاد بين المعنيين، وكلاهما نص مستقل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقوله: (جعت ومرضت) لفظ اتحاد يثبت الحق.
وقوله: (لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي) نفي للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد.
وقوله: (لوجدتني عنده) لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات].
هذه النصوص لا بد من الجمع بينها؛ لتعطي المعنى الفطري اليقيني الذي ينبني عليه التوحيد والإيمان، ولذلك لا يمكن أن تصفو عقيدة المسلم، ولا يكون عنده القدر اليقيني الصافي الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح إليه القلب، إلا إذا جمع بين نصوص الشرع على نحو ما كان يفعل أئمة السنة رحمهم الله، وبذلك يجد العقيدة الصافية، ولو إنه اشتغل بغير هذا المنهج وضرب آيات الله بعضها ببعض لوجد عنده التشويش، ووجد عنده عدم اليقين.
وبعض الناس يقع في هذا الخطأ فيضطرب قلبه، وقد لا يفصح عن ذلك، ويكون سبب اضطراب القلب هو اتباع المتشابه، يعني: تأتيه هذه النصوص فيأخذها على ظاهرها، وقد لا يجيد القدرة على الجمع بين النصوص، أو لا يحفظ النصوص التي بعضها يرد إلى بعض، فلا يرجع إلى أهل الذكر الذين قال الله فيهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الن