بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل.
وأما ما يشبه الاتحاد فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى، ولا عين صفتها بعين صفتها، إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة، كاتحاد الماء واللبن، فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث وليس ماء محضاً ولا لبنا محضاً].
نحتاج أن نضع قاعدة أو مدخلاً لهذا الفصل؛ من أجل أن تنتظم المسائل في الذهن؛ لأن الشيخ استطرد استطرادات تفصيلية، فالتفريق بين معنى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وبين ما يشابهها من ألفاظ شرعية، قد يفهم منها من خلال النصوص والأحاديث أو من خلال كلام السلف بألفاظ مجملة، قد يفهم منها المعنى البدعي أو الكفري عند البعض، فأراد الشيخ أن يفصل بين المصطلحات الشرعية التي تشتبه على أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ومن شايعهم، وبين المعنى البدعي، فهناك ألفاظ شرعية مجملة جاءت في النصوص الشرعية، مثل حديث: (مرضت فلم تعدني)، فهذه تسمى ألفاظاً مجملة، وهي في ظاهرها قد تشعر عند من لم يكن عنده عقيدة سليمة وبنى عقيدته على الضلال تشعر بمعنى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، فقد يستدل بها المبطلون ويوجهونها على توجيه باطل، لكن الشيخ سيبين أن توجيه هذه النصوص ينبغي أن يكون على الأدوات التي يفهم بها مقاصد الشرع، وهي منهج الاستدلال ومنهج التلقي الذي عليه سلف الأمة، والذي يمثل نهج النبي صلى الله عليه وسلم ونهج الصحابة رضي الله عنهم في بيان الدين وتطبيقه، ونهج السلف الصالح كذلك في تفسير الدين والعمل به، هذا المنهج لا يمكن أن يستغنى عنه، خاصة في تفسير الألفاظ المشتبهة والمجملة، لا يمكن أن نلغي استصحاب منهج الاستدلال الذي يقوم على تفسير النصوص بالنصوص، بحيث ترد مثل هذه النصوص إلى نصوص أخرى تفسرها، وسيقوم الشيخ بعد ذلك بهذا من خلال رد معنى الحديث إلى حديث آخر، فالحديث الذي اشتمل على ألفاظ توهم وحدة الوجود والاتحاد والحلول فسرها الشيخ على المنهج السليم بنصوص أخرى.
إذاً: النصوص تفسر بمنهج الاستدلال السليم الذي يقتضي العمل بقواعد الشرع، ومقتضيات الدين وقواعد الدين التي لابد أن يرجع إليها عند فهم الدين، وخاصة النصوص المشتبهة المجملة التي سيذكر الشيخ بعد قليل نماذج منها.
قال رحمه الله تعالى: [وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال، ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه، فإن استحالته محال؛ وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع].
يعني: أن الله عز وجل عند أهل الحلول والاتحاد يستحيل في خلقه على أي وجه، سواء قالوا: روح أو عقل، أو كما قال أصحاب وحدة الوجود: تتحد المادة اتحاداً مادياً وروحياً، يعني: يتحول إلى أن يكون عنصراً متحداً بالمخلوقات، تعالى الله عما يتصورون ويزعمون.
قال رحمه الله تعالى: [وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع مثل المتحابين المتخالين اللذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويتنعم بما يتنعم به، ويتألم بما يتألم به].
يشير الشيخ إلى بعض معاني الاتحاد أو الوحدة، يعني: أن هذه الألفاظ المجملة أحياناً تعني الشيء الجزئي، كما تقول: فلان لا يرى إلا من خلال صديقه، كأن العبارة تشعر بأنه حل فيه، يعني: أنه سلم له وخضع لقوله، فلذلك الشيخ عندما قال: (وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين) فرق بين الأسباب والأحكام، فاتحاد الأسباب: هو التأثر والتأثير المادي، مثل اتحاد الماء مع النبات، فإن الماء سبب للنبات، فهذا مادي يعود إلى خصائص المخلوقات، والنوع الثاني في الأحكام والعين: التأثير المعنوي، فهذا الأمر قد يكون كلياً وقد يكون نسبياً، والنسبي منه أمر اعتباري، قد يكون فيما يتعلق بصلة صفات الله عز وجل بخلقه، فإن صفات الله عز وجل لها أثر في خلقه، فالرحمة والإرادة والقدرة والخلق صفات لها تأثير، فهل هذا التأثير يعني: الاتحاد؟ لا، إنما يعني: وجود نوع من العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهذه العلاقة لا تعني الاتحاد، فهذا في باب الأسباب والأحكام، فكيف في الأسماء والصفات؟! قال رحمه الله تعالى: [وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط؛ فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد.
وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما، التي هي -مثلاً- المحبوب والمكروه هو واحد بالعين، كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين، فهم متحدون في محبته، بمعنى أن محبوبهم واحد، ومحبة هذا من نوع محبته هذا، لا أنها عينها.
فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض، وهي الأخوة والخلة الإيمانية، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) أخرجاه في الصحيحين، فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو