قال رحمه الله تعالى: [وأصناف العبادات الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها، من السجود، والركوع، والتسبيح، والدعاء، والقراءة، والقيام، لا يصلح إلا لله وحده.
ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده، لا لشمس، ولا لقمر، ولا لملك، ولا لنبي، ولا صالح، ولا لقبر نبي ولا صالح، هذا في جميع ملل الأنبياء، وقد ذُكر ذلك في شريعتنا حتى نُهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه أن يسجد له، وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها)، ونهى عن الانحناء في التحية، ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد].
هذه الأمور منها ما هو شرك ومنها ما هو ذريعة للشرك، والصورة التي ذكرها الشيخ هنا: السجود للشخص، فقد يكون أحياناً من باب التعظيم والتقدير، لكنه صورة من صور الشرك الأكبر، ولما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يجوز، لم يعد لأحد حجة بأن يفعل ذلك تعظيماً؛ لأن الظاهر أن معاذاً رضي الله عنه كاد أن يسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى بعض الأمم المعظّمة لملوكها وشيوخها تسجد للأشخاص، ويستبعد أن يكون قصده سجود العبادة، وإنما ظن أن هذا نمط من أنماط التحية والتقدير، ومع ذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن السجود لا يكون إلا لله، ولما توافرت النصوص من الكتاب والسنة على أن السجود ونحوه من أنواع العبادة كالطواف، والتي ظاهرها لا تكون إلا طاعة محضة لله عز وجل، عُرف أن ذلك يكون شركاً إذا كان لغير الله، لكن الحكم على المعيّن يحتاج إلى إجراء ضوابط التكفير المعروفة، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الصور الشركية الواضحة وعن غيرها مما يؤدي إلى الشرك، مثل: الانحناء في التحية، فهو ليس شركاً ما لم يصل إلى حد الركوع، لكنه ذريعة إلى الشرك والتعظيم والغلو الذي لا يجوز أو الذي يتجاوز الحد الشرعي، ولذلك كثير من الناس لا يفرّق بين الصور التي هي من باب سد الذرائع وبين الصور الشركية البحتة، بل حتى الصور الشركية البحتة فإن كثيراً من طلاب العلم في الآونة الأخيرة صاروا يخوضون فيها بغير علم، ويحمّلون كلام العلماء ما لا يحتمله، وصار كثير منهم يحكم على كل من عمل شركاً ظاهراً بالشرك مطلقاً، وهذا أمر فيه نظر، مع أنه يسمى شركاً، كالسجود لغير الله، والركوع لغير الله، والطواف بالقبور، لكن لا يلزم أن كل من عملها يكون مشركاً، إلا إذا توافرت القرائن وتبينت الحال، أما إذا لم تتبين الحال فينبغي للناس ألا يتعجلوا، وسأضرب لكم مثلاً حتى يتضح الأمر أكثر وأكثر، ولأن هذه المسألة أصبحت من المسائل التي تثار كثيراً، وتثار أيضاً حولها مسائل علمية أشكلت على كثير من طلاب العلم، بل وأُلّفت فيها رسائل وكتباً، ألا وهي مسألة: هل كل من عمل بالشرك الظاهر يحكم بأنه مشرك مطلقاً؟ إن القواعد الشرعية لا بد فيها من التفصيل، والمثل الذي أوردته ويبين هذه المسألة بإيجاز، كما تتبين به حتى القاعدة، فلو أن إنساناً رأيناه يطوف على قبر مع الناس، ولا نعرف أنه من أهل هذا البلد الذين اعتادوا الطواف بالقبور، أي: أنهم قد نشئوا على البدعة وتمذهبوا بها وتدينوا بها، فهل يحكم بشركه مباشرة؟ أقول: لا؛ لأنه لا بد أن تتوافر عندنا القرائن على أن هذا الشخص لم يكن ممن اعتاد الطواف بالقبور، بل ولا يعرف هذه الأمور، ولأنه ربما يظن أن هذا من مراسم الزيارة، أو ربما يطوف ولا يدري ما الناس يفعلون، أو لا يدري ما معنى هذا الطواف ولا يشعر بالتعبد إطلاقاً، وربما يكون ممن لم يحج أصلاً ولا يعرف معنى الحج والطواف؛ لأنه حقيقة قد يوجد من سذّج الناس وعوامهم من لا يدري عن هذه المعاني، ولذا فالعمل شرك، والإنسان الذي فعل ذلك آثم، لكن يبقى الخلاف: هل يحكم بشركه وخروجه من الملة أم لا؟ هذه مسألة خلافية، والراجح: أننا لا نستطيع أن نحكم بكفر هذا الإنسان الذي يعمل الشرك عملاً طارئاً ما لم يكن متأصلاً فيه أو مداوماً عليه.
إذاً: فهذه صورة من الصور، والشيخ هنا أشار إلى حديث معاذ، وهو دليل للفريقين، الفريق الأول الذي يقول: بأنه ليس كل من عمل شركاً فقد أشرك، والفريق الثاني: على العكس، وعليه فالدليل قد يوجه على الوجهين.