قال رحمه الله تعالى: [ولفظ العبد في القرآن يتناول من عبد الله، فأما عبد لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبده، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] وأما قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17].
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41].
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45].
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65].
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3].
{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23].
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10].
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19].
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ونحو هذا كثير.
وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194].
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف:102] قد يقال في هذا: إن المراد به الملائكة والأنبياء، إذا كان قد نهى عن اتخاذهم أولياء فغيرهم بطريق الأولى، فقد قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الدجال: (فيوحي الله إلى المسيح أن لي عباداً لا يدان لأحد بقتالهم)، وهذا كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعبّدون مذللون مقهورون يجري عليهم قدره.
وقد يكون كونهم عبيداً هو اعترافهم بالصانع وخضوعهم له وإن كانوا كفاراً، كقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
وقوله: {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] أي: ذليلاً خاضعاً، ومعلوم أنهم لا يأتون يوم القيامة إلا كذلك، وإنما الاستكبار عن عبادة الله كان في الدنيا، ثم قال: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:94 - 95]، فذكر بعدها أنه يأتي منفرداً، كقوله {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
وقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83].
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] الآية.
وقال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]، فليس المراد بذلك مجرد كونهم مخلوقين مدبرين مقهورين تحت المشيئة والقدرة، فإن هذا لا يقال طوعاً وكرهاً، فإن الطوع والكره إنما يكون لما يفعله الفاعل طوعاً وكرهاً، فأما ما لا فعل له فيه فلا يقال له: ساجد أو قانت، بل ولا مسلم، بل الجميع مقرون بالصانع بفطرتهم، وهم خاضعون مستسلمون قانتون مضطرون من وجوه: منها: علمهم بحاجتهم وضرورتهم إليه.
ومنها: دعاؤهم إياه عند الاضطرار.
ومنها: خضوعهم واستسلامهم لما يجري عليهم من أقداره ومشيئته.
ومنها: انقيادهم لكثير مما أمر به في كل شيء، فإن سائر البشر لا يمكّنون العبد من مراده، بل يقهرونه ويلزمونه بالعدل الذي يكرهه، وهو مما أمر الله به، وعصيانهم له في بعض ما أمر به، وإن كان هو التوحيد لا يمنع كونهم قانتين خاضعين، مستسلمين كرهاً، كالعصاة من أهل القبلة وأهل الذمة وغيرهم، فإنهم خاضعون للدين الذي بعث به رسله، وإن كانوا يعصونه في أمور.
والمؤمن يخضع لأمر ربه طوعاً، وكذلك لما يقدّره من المصائب، فإنه يفعل عندها ما أُمر به من الصبر وغيره طوعاً، فهو مسلم لله طوعاً خاضع له طوعاً، والسجود مقصوده الخضوع، وسجود كل شيء بحسبه سجوداً يناسبها ويتضمن الخضوع للرب].