قال رحمه الله تعالى: [وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، وكان أعظم آية في القرآن الكريم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه.
واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين: أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة! وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم، فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ} [التوبة:120] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمناً وتبعاً لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه].
يريد الشيخ هنا أن يبين أن حقيقة العبادة لله عز وجل إذا توافر فيها الإخلاص والاستقامة والخشوع وغير ذلك من الأمور التي تجلب قوة الإيمان واليقين في القلب، وهي في حقيقتها لذة وليست نصباً، والنصب أمر خارجي عارض، بمعنى: أن الإنسان قد ينصب ويتعب في بعض العبادات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ليس المقصود هنا مجرد التعب بالبدن؛ لأن التعب هذا تعب عارض، لذا فأول النعيم ما يجده العبد من اليقين ومن قوة الإيمان ومن لذة المناجاة لله عز وجل، فمن حقق العبادة بأوصافها الحقيقية لا يجد المشقة التي يستشعرها الناس، بل يجد اللذة والقوة واليقين، ويجد المتعة في الأعمال وإن كانت شاقة ظاهراً، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أعظم من حقق العبادة لله عز وجل، وهو أخشع الخاشعين لله- يقول إذا حزبه أمر: (أرحنا يا بلال بالصلاة)، فهذا هو الفرق، بمعنى: أنه إذا شعر بمشقة وتعب من أي عمل، وجد راحته في الصلاة.
أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم: الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فهذه الصلاة مع أن فيها نوعاً من المشقة النسبية، كالوضوء والركوع والسجود وطرد للنوم والكسل، بل وطرد للعوارض التي يتعب الإنسان في طردها من وساوس الشيطان والأفكار والأوهام والإصرار على الخشوع والمداومة عليه، وكل ذلك متاعب جسمية ونفسية، لكن مع ذلك يجد فيها الإنسان الموقن -إذا توافرت فيه شروط الإخلاص واليقين والخشوع- اللذة، وعند ذلك تنتفي المشقة.
إذاً: المشقة أمر عارض وليست في أصل الأعمال، بل الأعمال تنسجم مع طبيعة ما رتّب الله على الإنسان في جسمه ونفسه وروحه وقلبه، وسواء كانت هذه الأعمال ظاهرة أو قلبية، فكلها في الأصل ينسجم معها القلب والروح والنفس، وبذلك يسعد الإنسان سعادة تامة، ومن هنا تنتفي المشقة التي يتصورها كثير من الناس.
قال رحمه الله: [ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] أي: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب، ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبداً، قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فهذا أصل].