قال رحمه الله تعالى: [ونبيّن هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة.
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين: أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه.
وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية، فهنا أربعة أشياء: أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه].
أي: أن هذه الوجوه التي أشار إليها الشيخ تعتبر قواعد لتحقيق التوحيد وإخلاص العمل لله عز وجل، فهي تمثل قواعد ذهبية عظيمة ترجع إليها جميع مسائل توحيد الربوبية والإلهية.
قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول: من معنى الألوهية، والثاني: من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123].
وقوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58].
وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30].
وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:8 - 9] فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين].
أي: مطلوب من العبد أن يحقق توحيد العبودية أو توحيد الإلهية لله عز وجل، وهذا هو الأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، ذلك بأن الله عز وجل هو الذي يقدر النافع، وهو الذي يقدر المكروه، والنزعة إلى جلب النافع ودفع المكروه نزعة فطرية غريزية تجعل الإنسان يلجأ إلى من يقدر على ذلك، لذا فكل إنسان لا بد أن يميل وينزع إلى جلب النافع ودفع المكروه، وإلى دفع الضار وكراهية المكروه، ثم هذه النزعة لا بد للإنسان فيها أن يلجأ إلى من يقدر على جلب النافع ويقدر على النفع به، وهو الله عز وجل، وكذلك الذي يقدر على دفع المكروه، وهو الله عز وجل، الذي خلق المكروه ابتلاء ويقدر على دفعه.
فهذه المسائل يجتمع فيها معنى الربوبية ومعنى الإلهية، أما معنى الربوبية فهو واضح بأن الله عز وجل هو الذي خلق الأشياء النافعة والضارة، وهو الذي أوجدها وقدرها قدراً، وأما معنى الألوهية فهو أن يعرف العبد أنه لا يقدر على جلب النفع مطلقاً ودفع الضار مطلقاً إلا الله عز وجل، ومن هنا يتحقق على هذا الأساس توحيد الإلهية، وهو الاستعانة بالله عز وجل وطلبه سبحانه دون سواه.