بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول: ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة، وهو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء].
في الحقيقة هذه قاعدة عظيمة قد تضمنت عدة فروع، منها: الأسباب والاعتماد عليها أو عدم الاعتماد عليها، والشيخ هنا قد ذكر الشق الأول من القاعدة، فقال رحمه الله: فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.
وهذا كلام مجمل في الحقيقة يحتاج إلى بيان؛ لأن الالتفات للأسباب يطلق على معنيين: فعل الأسباب مع وجود التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وهذا مشروع، لكن الشيخ لا يقصد هذا المعنى، وإنما يقصد بقوله ذاك: الاعتماد على الأسباب من دون الله عز وجل، وجعلها هي النافعة والضارة والمؤثرة من دون الله، دون أن يكون لله عز وجل في ذلك تقدير ولا خلق، وهذا كما يفعله كثير من أهل الشرك، بل الآن أكثر الكفار يظنون أن الأسباب هي الفاعلة، ولا يعولون على تقدير الله عز وجل، بل لا يعرفون هذا أصلاً في عقائدهم، ويظنون أن الأسباب هي التي أوجدت، ولذلك نجدهم -مثلاً- في تعبيراتهم الأدبية خاصة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل، فيقولون: إن الطبيعة خلقت كذا، والإنسان خلاق، وكذا خلق، وهذه التعبيرات انتقلت إلى بعض المثقفين المسلمين مع الأسف؛ بسبب التقليد الأعمى وبعدم إدراك العقيدة ينسبون الخلق إلى غير الله عز وجل كما ذكرنا؛ لأنهم يرون الأسباب هي المؤثرة، فالتفتوا إليها ولم يعولوا على الاعتماد على الله عز وجل، وهذه سمة عامة في جميع الكفار في هذا العصر.
إذاً: الالتفات إلى الأسباب على نوعين: الأول: فعل الأسباب كما شرع الله عز وجل مع الاعتماد على الله، وهذا مشروع، الثاني: الاعتماد على الأسباب من دون الله، وهذا شرك مع الله عز وجل، وهذه هي القاعدة الأولى.
وأما القاعدة الثانية فقال رحمه الله: (ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل).
يقصد بهذا نظريات بعض المتكلمين وخاصة غلاة الأشاعرة، فهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على الأفعال على الناس فقط، وليست أسباباً حقيقية، حتى إن منهم من زعم أن السحاب ليس سبباً مباشراً للمطر، وأن المطر ليس سبباً في الإنبات، وزعموا أن هذه مجرد قرائن، فإذا رأينا السحاب فقد يكون هناك مطر، لكن ليس بسبب السحاب.
وهذه مغالطة، ولذلك قال الشيخ: (نقص في العقل).
أي: لاشك أن الله عز وجل هو الخالق، وأن الأسباب من خلقه، لكن الله عز وجل جعل للكون نظاماً، وجعل من نظام خلقه أن الأسباب بالفعل مؤثرة بمسبباتها، وكل ذلك يرجع إلى تقدير الله وخلقه.
وعليه فالأسباب ومسبباتها من خلق الله عز وجل، لكن عندما بالغ هؤلاء في إثبات الأمور إلى الله عز وجل ألغوا الأسباب، حتى جعلوها مجرد قرائن على وجود الأشياء، فقالوا: إن الله عز وجل جعل الأسباب مجرد قرائن وليس لها تأثير أبداً، وهذا لاشك أنه نقص في العقل.
والقاعدة الثالثة قوله: (والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع) وهذا رأي كثير من غلاة المتصوفة وغلاة العباد والنساك الذين زعموا أن التعلق بالأسباب نقص في الإيمان، وهذا خطأ؛ لأن التعلق بالأسباب على وجه شرعي مع الاعتماد والتوكل على الله عز وجل -بشرط ألا يعتقد الإنسان أو الفاعل أن السبب هو المؤثر من دون الله- أمر مطلوب شرعاً، وفعل الأسباب من مقتضيات الدين ومن ضروراته؛ لأن الله عز وجل أمر بفعل الأسباب في كل شيء، بل أركان الدين وواجباته لا تقوم إلا بفعل الأسباب، وعلى هذا فهؤلاء الذين أعرضوا عن الأسباب بالكلية، وزعموا أنه يسع المسلم أن يقعد عن العمل ويأتيه رزقه، ويقعد عن الجهاد ويأتيه النصر، ويقعد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويأتيه الأمن، كل هذا باطل، فالمسلم لابد أن يفعل الأسباب في نفسه وفي نصر دينه، وفي معاشه وفي دينه ودنياه، ولذلك هؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك ظهرت منهم هذه المذاهب المخذلة التي كانت من أعظم أسباب خذلان المسلمين وقعودهم عن الأخذ بأسباب الحياة في العصور المتأخرة، وذلك عندما هيمن التصوف في العالم الإسلامي في القرون المتأخرة، وهيمن الذل والهوان والقعود عن فعل الأسباب، ووجد الركون والخمول بسبب هذه العقيدة الفاسدة، وهي عقيدة ترك الأسباب.
إذاً: ترك الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأنه إعراض عن أمر الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا الباب: الرقية الشرعية، فهي تعتبر من الأسباب التي أذن الله بها.
قال كثير م