قال رحمه الله تعالى: [والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]].
إذن الله عز وجل للشفعاء يفسّر بأمرين: بمقتضى النصوص الأخرى، ومقتضى سياق نصوص الشفاعة وأحاديث الشفاعة.
فالأمر الأول: الشفاعة المشروعة، بمعنى: أن تكون الشفاعة مشروعة على أمر مشروع، والإذن بمعنى: أن الله عز وجل يفتح الشفاعة لهذا العبد، بمعنى: أنه يرخّص له بهذه الشفاعة، فقوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فتتضمن الأمرين: بما شرعه من شروط الشفاعة المثبتة، ويجب أن يباشر، أي: بإعطائه الفرصة للشفيع بأن يشفع، أو بصدور الإذن من الله عز وجل بكلامه وبأمره.
ولذلك يعتبر الإذن من ضمن شروط الشفاعة، وليس الشرط الوحيد بأن يرضى الله عن الشفيع والشافع، وألا يكون المشفوع له من أهل النار الخُلّص إلى آخره، فهذه شروط يتضمنها معنى الإذن، بمعنى: أنه لا يكون الإذن إلا بتوافر الشروط.
ومن هنا الإذن يشمل الأمرين: توافر الشروط، ثم صدور الأمر من الله عز وجل بالشفاعة.
قال رحمه الله تعالى: [فبيّن أن كل من دُعي من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك، ولا هو ظهير، وأن شفاعتهم لا تنفع إلا لمن أذن له.
وهذا بخلاف الملوك، فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك، وقد يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم معاوناً لهم على ملكهم، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك هم وغيرهم، والملك يقبل شفاعتهم تارة بحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة لجزاء إحسانهم إليه ومكافأتهم ولإنعامهم عليه، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه، فإذا لم يقبل شفاعته يخاف ألا يطيعه، أو أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة.
والله تعالى لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني، قال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس:66] إلى قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]].
من أوضح الفوارق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، ومسألة قياس الشفاعة عند الله عز وجل بالشفاعة عند الملوك والبشر: هو أن الشافع بين البشر أنفسهم كالشفاعة عند العظماء وعند العلماء وعند الملوك والسلاطين وعند التجار وغيرهم تكون فيها الشفاعة مؤثرة في الشافع والمشفوع له، يعني: مؤثرة بأي نوع من الشفيع، ولنفرض أن المشفوع عنده والتي طلبت منه الشفاعة، أو الذي يطلب منه الشافع العمل، ولنفرض أنه ممن لا يحتاج البشر حاجة ظاهرة، لكن لا يمكن أن يؤدي خدمة للمشفوع له بناء على شفاعة الشافعين، إلا لأمر أثّر عليه، إما رحمة، وإما رجاء، وإما خوف، وإما حب التسلط، ولنفرض أن هذا المشفوع عنده ممن لا يرجو الناس ولا يخافهم، لكن لا بد حينما أطاع، وحينما عمل بمقتضى الشفاعة لا بد أن يكون هناك مؤثر فيه، ولو على الأقل إثبات الجبروت، أو إثبات أن له نعمة على الناس، ومعنى هذا: أنه لا بد أن يكون تأثر بالشفاعة، ولكن الله عز وجل هو الغني الغنى المطلق، فالشافع غير مؤثر في الله إطلاقاً بأي نوع من التأثير، من هنا لا يجوز قياس المشركين الذين قاسوا به بأن الشفاعة عند الله تماثل الشفاعة عند أصحاب السلطان وأصحاب الجاه وغيرها؛ لأن الشفاعة هذه فعلاً مؤثرة، والشافع المخلوق عند المخلوق لا بد أن يؤثر وإن كان المشفوع عنده أكبر وأعظم سلطاناً، فلا بد أن يكون مؤثراً بأي نوع، بينما الشفاعة عند الله عز وجل لا يكون الشافع فيها مؤثراً بأي نوع من التأثير، وإنما هي بإذن الله وبرحمته لعباده، والله عز وجل هو الغني الغنى المطلق لا يؤثر فيه شيء، ولا يرجو العباد ولا يخشاهم.