قال رحمه الله تعالى: [ومن سوى الأنبياء -من مشايخ العلم والدين- فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته، يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم فقد أصاب في ذلك].
هذه المسألة متفرعة عن النوع الأول، فالشيخ عندما ذكر أن الواسطة على نوعين، ذكر أن الواسطة الصحيحة هي واسطة الأنبياء الذين يبلغون عن الله عز وجل، وأن وساطتهم إنما هي في التبليغ فقط، وأن الله عز وجل أيضاً أوصى لهم بحقوق من المحبة والاتباع، وهي واجبة على المسلم، إذاً فهذه الواسطة مشروعة، لكن ليست في باب العبادة ولا التبرك ولا غير ذلك من البدع التي يعملها المبتدعون.
ثم جاء بالنوع الثاني وهو الواسطة الممنوعة، وهي اتخاذ الوسائط من دون الله عز وجل في صرف العبادة لغيره أو التقديس أو التوجه أو غير ذلك.
ثم فرّع هذه المسألة الأخيرة على المسألة الأولى، وهي أنه كما أنا نقول: بأن الأنبياء مبلّغون عن الله عز وجل، فكذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم العلماء يبلّغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، لكنهم لا يأتون بتشريع من عند الله، وليس لهم في ذلك عصمة ولا قداسة، وإنما يطاعون بطاعة الله عز وجل، وبتبليغ ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهم ورثة الأنبياء فيما ورثوا من الحق.
ثم رتب على هذه المسألة نتيجة أو قاعدة عظيمة جداً، فقال رحمه الله: [وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة قاطعة، لا يجتمعون على ضلالة].
هذه قاعدة مهمة جداً ينبغي أن يفهمها طلاب العلم؛ لأن من المسائل التي خفيت على كثير من الناس اليوم أنه إذا قلنا: بأن العلماء هم المبلّغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم في نقل العلم، فلا يعني ذلك أنهم معصومون، لكن أيضاً لا يمكن أن يجمعوا على ضلالة لأسباب: أولها: أن الله قد تكفّل بحفظ الدين، ولو أجمعوا على ضلالة فقد انخرمت هذه القاعدة.
ثانيها: أن الله عز وجل جعل الكتاب المحفوظ والسنة بينة واضحة، وما دامت السنة بيّنة واضحة فلا يمكن أن يقع إجماع العلماء على الضلال؛ لأن الإجماع على الضلال لا يكون إلا عن جهل، ومع بيان الحق لا يمكن أن يتأتى الجهل على الجميع.
فإذاً: هذه ضمانة من الله عز وجل بأن أهل العلم إذا أجمعوا فإن إجماعهم حجة قاطعة؛ لأنهم لا يجمعون على ضلالة، لكن قد يخالفهم بعضهم، وهذه مسألة واردة جداً، وقد تقول الأكثرية أحياناً بغير الحق، وأحياناً قلة جداً لا تحدث إلا عند الفتن ونحو ذلك، لكن لا يكون الإجماع، وأحياناً قد يخفى الحق على الأكثرين ويتبين لقليلين، فهذه ينبغي أن نفهمها جيداً، لكن لا يقع الإجماع؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يجمع الله أمتي على ضلالة)، فأهل العلم الذين يمثلون الأمة لا يجتمعون على ضلالة، وغيرهم من بقية الأمة تبع لهم، وبحمد الله هذه القاعدة مستمرة وإلى أن تقوم الساعة واضحة جلية، ولم يحدث إجماع في يوم من الأيام على ضلالة، أو تبيّن أن الأمة في يوم من الأيام، أو في عصر من العصور قد اجتمع علماؤها على ضلالة، لم يحدث هذا أبداً ولن يحدث.
والعصمة ليست لأفرادهم، وإنما العصمة للدين ولمجموع العلماء إذا أجمعوا لا لذواتهم؛ لكن لأنهم استندوا على الحق، فبه يقع الإجماع.
لكن بعد توزع الأمة ووجود المسلمين في أمكنة كثيرة مختلفة، ووجود البلاد على شكل دول، فيبدو لي والله أعلم أنه لا يعتبر إلا في حالات نادرة لا أتصورها الآن، فلو افترضنا أن البلاد تشمل أهل السنة والجماعة مثلاً، وأن فيها أغلبية العلماء فربما لا يقع الإجماع، لكن لا ينطبق على القاعدة، فالقاعدة تعني عموم الأمة؛ لأنا إذا خضنا في التفصيلات فقد نقع في شبهات ليس لنا فيها دليل، والمقصود العموم، والعموم يحدث بعموم الأمة.
قال رحمه الله تعالى: [وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)].