قال رحمه الله تعالى: [وللناس في معنى هذا قولان: أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: (كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)، فقد ذكر عمر رضي الله عنه: أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً لهم داعياً لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: (اللهم فشفعه فيَّ).
فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه].
لذلك كثير من أهل البدع أُتوا من قبل العجمة كما ذكر أئمة السلف، ومعنى: العجمة: أنهم لم يفقهوا معاني العربية، فلذلك لم يفرقوا بين معنى قوله: (شفعه فيَّ) وبين المعنى البدعي الذي ظنوه.
وقوله: (شفعه فيَّ) معناها: اقبل دعاءه في حقي، أو في طلبي، ولا تأتي بمعنى: (شفع) إلا إذا كانت بمعنى: أن يوجد جهد من النبي صلى الله عليه وسلم يبذله، وهذا الجهد هو دعاؤه، ولو كان توسلاً بذات النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: (شفعه)؛ لأنه لو اعتبر الذات هي النافعة ما اعتبر هذا تشفيعاً، ولا اعتبر هذا توجهاً إلى الذات أو توجهاً إلى الشخص.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن التوسل يكون في حياته وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك].
هذا الوجه الحادي عشر من جواب الشبهات في السابق، وما سبق فهو تفصيل للوجه العاشر.
قال رحمه الله تعالى: [واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.
وأما من قال: (إن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر)، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين].
هذا الوجه الثاني عشر.
قال رحمه الله تعالى: [وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما)].
هذا الوجه الثالث عشر.
قال رحمه الله تعالى: [وأما من قال: (ما لا يقدر عليه إلا الله لا يستغاث فيه إلا به)، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد الله القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)].
كلام أبي يزيد وهو البسطامي كلام جيد، وتقعيد عظيم، وهذا مما يجعل الباحث يتوقف في نسبة بعض الأشياء التي تعد من خوارم العقيدة التي نسبت إلى أبي يزيد؛ لأنه في الحقيقة يصعب ويبعد أن يكون هذا الكلام الجيد، والذي هو من درر الكلام أن يصدر عن إنسان تنسب له تلك المقالات أو تلك الشطحات التي ذكرها عنه مؤرخة التصوف؛ ولذلك كما قلت -كلما تأتي لي هذه المناسبة أكرر ذلك؛ لأن الإخوان الحاضرين أحسبهم من خيرة طلاب العلم، ومن ذوي المقدرة على البحث-: بأنه لابد من ضرورة تحرير مثل هذه المسائل التي تنسب إلى أبي يزيد البسطامي وابن أبي الحواري والجنيد والتستري وأمثالهم من شطحات أحياناً كفرية.
في حين أنه تنسب إليهم مثل هذه الدرر التي تدل على صفاء التوحيد، وتدل على قوة يقين في قضايا العقيدة، وهي في الحقيقة من درر الكلام التي فيها رد مباشر على الذين ينتسبون إلى أبي يزيد البسطامي الآن، ويزعمون أنه أصل بدعهم.
ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -في الحقيقة- تحرز وتوقف فيما قاله الناس عن هؤلاء من شطحات، وكذلك قول القرشي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون هي بمعنى قول أبي يزيد البسطامي.
إذاً: فهذا التصور صاف في التوحيد، ولا يتأتى معه ما ذكر عن هؤلاء من خوارم، فأرجو من أحد الإخوان أن يبحث هذه المسائل، ولو على الأقل في شخص واحد ليكون أنموذجاً، كـ أبي يزيد أو ابن أبي الحواري أو التستري أو