قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنها، أو لجلب المنفعة للناس، أو دفع المضرة عنهم، فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها، وهو منفعة لها، وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد، وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم، ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلاً قد يضرهم، وقد يتركه لمضرة الناس، أو لترك منفعتهم، فهذا مذموم كما تقدم، وقد يكون في الترك أيضاً مضرة نفسه أو ترك منفعتها، إما بأن يكون محتاجاً إليه فيضره تركه، أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا، فيتركها من غير معارض مقاوم، فلهذا فصلنا هذه المسألة، فإنها مسألة عظيمة، وبإزائها مسألة القبول أيضاً، وفيها التفصيل، لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول، ولهذا يعظِّم الناس هذا الجنس أكثر، وإذا صح الأخذ كان أفضل، أعني: الأخذ والصرف إلى الناس].
كما كان يفعل الإمام أحمد رحمه الله، إذ كان من دأبه رد هدايا الأمراء والسلاطين، لكنه مرة أخذها ووزعها على الناس، أو أكثر من مرة فيما أذكر، وعلل ذلك في بعض المواقف التي أخذ فيها المال أنه خشية سوء الظن من السلطان به، أو أن يبني على ذلك أحكاماً تضر بأهل العلم، فأخذ المال ووزعه والناس يرون ويشاهدون.
فهذه صورة من الصور، وهذا من فقه السلف، فقد كانوا يتورعون عن أخذ الهدايا والعطايا، لكنه ليس ذلك دائماً، بل إذا رأوا أن في رد الهدية مضرة، أو رأوا أن في أخذ الهدية مصلحة لأناس آخرين، كأن يكون هناك فقراء محتاجون، وفي أخذ الهدية لإعطائها إياهم مصلحة؛ فإن هذا أمر معتبر.
وبالمناسبة أحب أن أطبق بعض ما ذكره الشيخ على حالنا اليوم، وذلك فيما يتعلق بمسألة المنافع المتبادلة بين الناس، إذ أصبحت العلاقة بين الناس الآن في الغالب مبنية على تبادل المنافع، فتجد أكثر الناس يحرص على أن يعطي ليأخذ، أو أن ينفع ليكسب، أو أن يساعد احتياطاً لحاجته في المستقبل، أو أن يسعى لتحسين علاقاته بالآخرين؛ لأنه يرى أن هذا سينفعه عند الحاجة في الحال أو المآل، وهذه كلها مقاصد أحياناً تضعف الإيمان في القلب، وتقسي القلوب، وتضعف المعاني القلبية التي ذكرها الشيخ، بل إن هذه مقاصد شر، والطامة أنها أصبحت من الأعراف والعادات، بل وغفل عنها كثير من طلاب العلم والوعاظ، مما أدى إلى ضياع بعض المعاني الشرعية، أو فقدناها إلا نادراً.
ومن ذلك فقدان الزيارة في الله عز وجل، فالآن أكثر الناس إذا زاره أحد من إخوانه أو أصدقائه أو جيرانه، أو ممن يعرفه أو لا يعرفه، فإن أول ما يرِدُ في ذهنه أن له حاجة؛ لأن الزيارة في الله قد انعدمت، وما كان ينبغي أن يكون ذلك، بل ينبغي لطلاب العلم الذين يعرفون هذه المعاني أن يكونوا قدوة للناس في هذا الأمر، وأن يكثروا من الزيارات في الله عز وجل، فإن الزيارة في الله كادت أن تفقد، مع أنها في السابق كان لها معنى عظيم، وكانت تمارس بشكل ظاهر بين الناس يعرفها الصغير والكبير، والجاهل والعالم.
والأعجب أننا اليوم إذا تحدثنا عن مسألة الزيارة في الله فكأنها مسألة تاريخية تُذكر للصالحين سابقاً، وهذا هو الواقع.
أيضاًَ من الظواهر السيئة الموجودة عندنا بسبب ذلك: قلة المجالسة على مبدأ الجلساء الصالحين، فتجد المجالسة والمخالطة بيننا أحياناً، أو اختيار الأصدقاء والجلساء للشخص قد لا تكون مبنية على اختيار الجلساء الصالحين بالمعنى الدقيق، وإنما مبنية على الحاجة، والتحسب للطوارئ ونحو ذلك، وهذه مسألة تضعف الأعمال القلبية.
ومن ذلك أيضاً: ضعف الحسبة في تبادل المنافع بين الناس، فتجد أكثر ما يعمله الناس حتى من أعمال الخير أحياناً لا يكون فيه شيء من الحسبة، أو الأمر مختلط فيه بين المقاصد وبين الاحتساب، حتى إن أكثر الناس الآن يفسرون أعمال البر بأن المقصود بها تحسين العلاقة بين الطرفين، وهذه مسألة يجب أن يتنبه لها، ثم إن هذا يؤدي إلى ضعف المقاصد الشرعية في قلوب الناس، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض، وفي تبادل المنافع بينهم.
فضعف الحب في الله، وضعفت معاني الألفة والاجتماع والجماعة؛ لأن الناس قد تنافرت قلوبهم بسبب أن أكثرهم يظن أن ما يأتيه من إخوانه من منافع -حتى في أعمال الحسبة وغيرها- غالباً تكون لمقاصد دنيوية.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.